ثانياً: عندما حاولت الولايات المتحدة إعطاء الطابع الرسمي لـ “التطبيع” من خلال صيغة أمنية ملموسة، واقترحت صيغة “الناتو الشرق أوسطي” تبيّن للسعودية أنّ الهمّ الرئيسي لأميركا كان إضفاء “شرعية” ما على الاشتراك العربي، وخصوصاً السعودي، في المخطّطات الأميركية، بل وتوريط بلدان الخليج العربية في أيّ صراع مسلّح كبير أو حرب أميركية إسرائيلية على إيران، وهو هدف سيورّط هذه البلدان بالمزيد من التسلّح، والمزيد من التبعية الأمنية لكل من أميركا وإسرائيل، إضافةً إلى تهديد هذه البلدان بالدمار والخراب.
وملخّص الأمر هنا هو أن الولايات المتحدة بالرغم من حاجتها الملحّة لاستمالة “العربية السعودية”، ونيل رضاها، ومشاركتها في هموم المملكة وهموم الإقليم، أصبحت تستخف بها، وتهدّدها تحت ذرائع وحُجج “واهية” بالمقارنة مع ما قامت أميركا نفسها من نفس طراز هذه الحُجج، بل وأكثر كثيراً، ربّما لا يُقاس.
عقلية الاستعلاء، التي تعكس روح الهيمنة الاستعمارية، والصلف الأميركي والتصرف باعتبار أميركا شرطي العالم وقاضيه وجلّاده هو ما أوصل القيادة السعودية الشابة إلى عملية تاريخية جديدة من “التمرُّد الناعم” على سياساتها المنحازة فقط لإسرائيل، ولمصالح “الغرب” دون أيّ اعتبار يُذكر لمصالح حلفائها.
وهذا الصلف شهدنا فصوله المتتالية في عهد ترامب، ونتائج فصوله الجديدة في إخضاع الأوروبيين أنفسهم لأهداف الولايات المتحدة الخاصة والضيّقة، وبصورة تبعث على أعلى درجات الامتعاض، إن لم نقل على الاشمئزاز نفسه.
ثالثاً: وجود قيادة شابّة وطموحة، وشُجاعة في التصدي لقضايا كانت تعتبر من مُسلّمات الحكم والسياسة في البلاد، بما فيها سطوة المؤسّسة الدينية الرسمية، وهيمتها المطلقة على الفضاء الاجتماعي والثقافي والتربوي.. وجود هكذا قيادة لا يكفي وحده لقيادة عملية تاريخية في بلدٍ كبير، وعظيم الشأن والتأثير لمكانته التاريخية الدينية، ولقدراته الاقتصادية، ودوره الإقليمي الهائل ــ بصرف النظر عن شكل ومحتوى هذا التأثير ــ من دون أن يترافق دور هذه القيادة ويتكيّف مع معطيات المعادلات الدولية للصراع، ومع موازينه الجديدة، ومع قوى المستقبل فيه وأشكال التحالفات والاصطفافات التي ستتشكّل، والحقائق التي ستترسّخ تباعاً.
وهنا بالذات يُحسب للقيادة السعودية القدرة في قراءة حقائق هذا الصراع وهذه التوازنات، وهذه الاصطفافات.
كاتب هذه المقالة لم يتوقّع في حينه أن تكون القيادة السعودية على هذه الدرجة من التنبُّه والحذر والدراية والحِنكة السياسية. وقد أخطأتُ شخصياً حين اعتبرت أن الإدارة الأميركية ستنجح في توريط المملكة بـ “الناتو الجديد”، وهو ما يدلّ على أنّ المؤسّساتية في المملكة باتت قادرة على المعرفة والتقدير واختيار القرار المناسب النابع من مصالح البلد أوّلاً وقبل أيّ مصالح أُخرى.
رابعاً: في إطار القدرة على رصد الواقع وقراءة المتغيّرات الإقليمية أظنّ أنّ المملكة قد لاحظت بوعيٍ كبير الدور الصيني الجديد في عالم اليوم، واستبقت بلداناً كثيرة لبناء علاقات هامّة وإستراتيجية معها، تماماً كما كانت قد قرأت أنّ من مصلحتها الخاصّة الإبقاء على علاقاتها الصحّية مع دولة بحجم روسيا الاتحادية، ومن زاوية الأزمة الخاصّة بالطاقة على الصعيد الكوني، في ضوء النتائج التي ترتّبت على الحرب في أوكرانيا، والنتائج التي يمكن أن تترتّب على حروب تحاول الولايات المتحدة افتعالها في بحر الصين، أو حول مستقبل تايوان أو غيرها، وكان من نتائج هذه القراءة أن اختارت المملكة مصالح شعبها، ومصالح أمّتها، ومصالح المنطقة.
خامساً: من الواضح أنّ هذه النزعة السعودية نحو درجةٍ معيّنة من الاستقلال عن الاندراج التام في الإطار والإستراتيجيات الغربية قد تصاحب مع نزعات على الصعيد الإقليمي والدولي على حدّ سواء.
لقد قرأت “العربية السعودية” جيّداً الاستدارات التي قامت بها إيران للحفاظ على مصالحها، والمرونة التي أبدتها إيران مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية لتفويت الفرصة على مخطّطات “الغرب” للإيقاع بها، بل والاستفراد بها، ولاحظت المملكة الاستدارة التركية جيّداً، وكيف تراجعت تركيا لأسباب كثيرة من بعض السياسات التي أضرّت بها، وعادت للتأقلم مع المتغيّرات الدولية الجديدة، وتراجعت تحديداً عن الدعم غير المشروط لـ “الإسلام السياسي” في شقّه “الإخواني”، وعن سياسة المحاور ضد مصر، والبلدان العربية في الخليج، وأصبحت تميل لعلاقات متوازنة مع روسيا، وتعبّر عن استعدادات جديدة لحلّ الصراع في سورية على أُسس وقواعد لم تكن تقبل بها مُطلقاً، كما أظنّ أن موقف الهند قد أوحى للقيادة السعودية.
كما قرَأَت المملكة الأزمة الإسرائيلية الداخلية مبكراً، ما أتاح لها فرصة التأنّي بمسألة “التطبيع”، ووفّر لها هوامش واسعة من المناورة نحو شروط ومحدّدات هذا “التطبيع”، والذي يستحيل على إسرائيل القبول بها في ظلّ ما وصلت إليه أزمتها المستعصية.
وفي الواقع فإنّ المملكة بات لديها مخطّطات كبيرة واستراتيجية للتحديث، ولم يعد لديها ما يمنع تطعيم هذا التحديث بعناصر عقلانية من الحداثة نفسها، ولديها طموحات في التحوّل إلى مركزٍ صناعي، وتقني، وسياحي سيجعل من الاعتماد على النفط وعوائده مجرّد أحد مصادر الدخل، وليس المصدر الوحيد أو يكاد يكون الوحيد كما كان لسنواتٍ طويلة، وسيحول الاقتصاد السعودي إلى اقتصاد مُنتج بدلاً من الاقتصاد الريعي، وسيحوّل المجتمع السعودي الزاخر بالطاقات الشابّة والفنّية إلى مجتمعٍ نشط في عملية التحديث والبناء الجديد، وهذه كلّها ليست سوى معالم مرحلة جديدة ستحوّل الدور الإقليمي لـ “العربية السعودية” من دور مُلحق بـ “الغرب” إلى دور أقرب إلى الدور الإقليمي المتوازن والمتّزن، وهذا أكثر ما يخشاه “الغرب”، وما سيحاول منعه بكلّ الوسائل بما فيها الوسائل غير المشروعة تحديداً.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية