الوضع الفلسطيني مخجل، وفق أيّ مقاييس، وكأنّ الشعب الفلسطيني مصاب بفيروس خطير، اسمه الانقسام. مقاييس لها تاريخ يمتدّ إلى ما قبل نكبة العام 1948.
يذكّرنا هذا الانقسام بالانقسام والصراع الكبير بين الحزب العربي وحزب الدفاع، الذي هيمنت عليه عائلتا الحسيني والنشاشيبي.
يشبه ذلك الخلاف الانقسام الحالي، بين حركتَي “فتح” و” حماس ” الذي يمتد هو الآخر، إلى مراحل التأسيس. كانت فلسطين وشعبها هي الخاسرة من تلك الانقسامات، فإذا كانت الانقسامات القديمة واحدة من أسباب ضعف وحدة الشعب الفلسطيني ومقاومته، فإنّ الانقسام الحديث هو، أيضاً، في أقلّ التقديرات، يسهم في إضعاف الشعب ومقاومته، ويقدم الذرائع للمتربّصين في الإقليم، وفي العالم، للتخلي عن دعم الشعب الفلسطيني، ويؤخّر قدرته على إنجاز حقوقه الوطنية.
لا تهدأ موجة من الاتهامات المتبادلة حتى تثور أخرى من جديد على نحو أسوأ من جولات الاتهامات السابقة.
الانقسام الراهن ينطوي على مخاطر كبيرة للقضية الفلسطينية والشعب الفلسطيني، فلقد تجاوز الخلاف السياسي بين الحركتين إلى أن شمل كلّ فصائل المقاومة، وامتدّ إلى النخب الأكاديمية والثقافية والسياسية.
من يتابع تغريدات بعض النخب يُصاب بالغثيان؛ إذ يطغى الخلاف بين الحركتين على كل ما يتعلّق بالاحتلال وسياساته، وكأنّ حلّ هذا الانقسام بطريقة ترجّح طرفاً على آخر، من شأنه أن يسرّع في إنجاز الحقوق الوطنية الفلسطينية.
لم يبقَ حليف أو صديق أو شقيق إلّا وبذل جهداً مخلصاً لإنهاء الانقسام، آخرها كان في العاصمة الصينية بكين، لكن كل الاتفاقيات التي قيل إن الكل وقّع عليها، لم تنتقل من حيث المكان الذي استضاف الحوارات.
ومع أنّ خطابات الفصائل المنقسمة كلها تؤكد على أهمية الوحدة الوطنية، لحماية القضية والشعب والأرض، إلّا أنّ تلك الخطابات لم تكن سوى ذرائع ومبرّرات لتبرئة الذات الفصائلية.
الشعب الفلسطيني لم يعد يصدّق ما يصدر عن الفصائل بشأن الحرص على استعادة وحدة الشعب ونظامه السياسي، فخطابات تبرئة الذمم لا تعدو كونها خطابات داخلية للأعضاء، لضمان وحدة الفصيل.
الشعب الفلسطيني يعاني أشدّ المعاناة في الضفة الغربية وقطاع غزّة، فإذا كانت الحرب الإبادية والإجرامية على القطاع، تشهد هدوءاً نسبياً مؤقّتاً، فإنّ حرب الإبادة والتهجير، والتنكيل، والاستيطان، والقتل، والاعتقال، وحرب التجويع، والعقوبات الجماعية، لا تزال قائمة وعلى أشدّها من قبل الاحتلال الإسرائيلي.
بل إنّ الحرب الحقيقية الخطيرة، ميدانها الضفة أساساً، فمهما تعرّض له القطاع، فإنّ المشروع الصهيوني يستهدفها و القدس ، وتتسارع نحو حسم الصراع في انتظار ضوء أخضر من الإدارة الأميركية.
يتوحّد الإسرائيليون على هدف رفض الدولة الفلسطينية، وعلى الاستيطان، وحول حسم الصراع على الضفة والقدس، بينما يواصل الفلسطينيون انقسامهم الخطير الذي يسهم استمراره في تسهيل تحقيق الأهداف الإسرائيلية.
ومن الواضح للفلسطينيين قبل غيرهم أنّ استمرار هذا الانقسام لا يمكن أن ينتهي إلى إقصاء طرف لحساب طرف آخر، فلقد أثبتت وقائع الحرب العدوانية على غزّة والضفة أنّ دولة الاحتلال فشلت في القضاء على أي من “حماس” و”فتح”، ولن تنجح كل محاولاتها اللاحقة.
“حماس” التي تتضافر جهود الدولة العبرية وحلفاؤها لإنهاء حكمها المدني، ووجودها العسكري، ليست موجودة فقط في القطاع، وإنما هي تنظيم يمتدّ وجوده إلى كافة أماكن وجود الفلسطينيين في فلسطين وخارجها.
وبعد “طوفان الأقصى”، حضّرت “حماس” لنفسها، مكانة وحضوراً غير قابل للزوال، ليس على خارطة الشعب الفلسطيني فقط وإنّما جذّرت وجودها في أعماق الجماهير العربية والإسلامية، وربما أبعد من ذلك.
أستغرب أنّ السياسيين، إن كانوا قادة فصائل أو نخباً، لا يعترفون بأن “طوفان الأقصى”، كان طوفاناً بكل معنى الكلمة، وأنّه في مقابل الثمن الكبير الذي دفعه الشعب الفلسطيني، فإن “الطوفان” أحدث زلزالاً وصلت تأثيراته وارتداداته على مختلف أنحاء المعمورة، وسلّطت الضوء على عنصرية وفاشية دولة الاحتلال، والدول الداعمة لها.
فقط على العقلاء من هذا الشعب أن يقارنوا بين مكانة القضية الفلسطينية قبل “الطوفان” بما بعده، حيث يُجمع الكل على أن السلام لا يمكن أن يتحقق إلّا عَبر “رؤية الدولتين”، مع استثناء معروف تسجّله دولة الاحتلال وأميركا.
ثمة من يستدعي خطاباً وذرائع قديمة قبل “الطوفان” حين كان البعض يتهم “حماس” بأنها تسعى إلى إقامة دولة في القطاع، ليتضح أن تلك مجرّد هراء، إذ لو أرادت ذلك، لما أقدمت على “الطوفان”، ولكانت حصلت على اعترافات عربية وإقليمية ودولية، بما في ذلك اعتراف إسرائيلي.
لست أسعى خلف تأييد طرف على آخر، أو الدفاع عن طرف بعينه، ولكنني أدعو إلى وقفة مراجعة حقيقية، وموضوعية لما يجري على ساحة الصراع من أجل تحقيق أهداف الشعب.
مهما طال الزمان بهذا الانقسام، فإنّ الحقيقة الساطعة التي على الجميع تداركها والاعتراف بها، هي أنّ وحدة الشعب والقضية على رأس قائمة الأولويات، وأن هذه الوحدة لا يمكن أن تتحقق إلّا باعتراف كل طرف بالآخر، والإقرار بأهمية الشراكة على مختلف الصعد، وفي كافة المؤسسات الفلسطينية، وأن السبيل إلى ذلك، إما العودة إلى الشعب من خلال صناديق الاقتراع، أو تحقيق التوافق إلى حين توفّر الظروف المناسبة لإجراء الانتخابات.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية