شدّد متخصصون في مجال التراث العمراني على أهمية الاستدامة للحفاظ على التراث العمراني والمواقع التاريخية، داعين إلى استلهام نماذج هذا التراث وتقديمها في تصميمات عصرية صديقة للبيئة ويتم تنفيذها بمواد طبيعية، مشيدين خلال الندوة الافتراضية، التي نظمتها جمعية التراث العمراني، مساء أول من أمس، تحت عنوان «الاستدامة في التراث العمراني والمتاحف»، وذلك بمناسبة «عام الاستدامة»، بالخطط التي تقوم بها الإمارات في هذا السياق.
حالة تحوّل
وأكد الأمير سلطان بن سلمان آل سعود، مؤسس ورئيس مجلس أمناء مؤسسة التراث غير الربحية، أن المملكة العربية السعودية تعيش حالة تحوّل غير مسبوقة في العالم، وأن الاستدامة تمثل ركيزة مهمة في الخطط الثقافية والاجتماعية والسياحية بها، مشيداً خلال الكلمة التي افتتح بها الندوة، بالجهود التي تقوم بها دولة الإمارات في مجال الحفاظ على التراث وحمايته.
اقتصاد التراث
وأوضح أن «مصطلح اقتصاد التراث بات معروفاً في الـ20 عاما الماضية، حيث أصبحت العوامل الاقتصادية والاجتماعية تتداخل في المجالات المختلفة، ومن بينها التنقيب عن الآثار وترميم المباني»، مشيراً إلى أن اليوم هناك استثمارات بمئات الدولارات في المملكة العربية السعودية في مواقع تاريخية، مثل العلا والطائف، وبرامج ترميم ضخمة جداً في جدة، وفي كل المواقع لتحويل هذا التراث الحضاري إلى اقتصاد جديد. وذكر أن «السعودية لديها اليوم برامج ضخمة جداً في مجال الاستدامة البيئية لخفض الاعتماد على الوقود الأحفوري، وترشيد استخدام الطاقة عموماً، وهي برامج أصبحت قيادية في خطة 2030».
أثرية وتراثية
وحذّر مؤسس ورئيس مجلس أمناء مؤسسة التراث، من قضية خطرة تتعلق بالمواقع الأثرية والتراثية، وهي أن تبتذل هذه المواقع وتفقد استدامتها، وهو ما حدث في مناطق مختلفة من العالم في قرى ومناطق تاريخية، كان التركيز فيها على ضخ أعداد كبيرة من الزوّار، وفقدت هيبتها وعمارتها وأصبحت في مشكلات عميقة جداً بسبب السياحة غير المدروسة، مثل اسبانيا وإيطاليا، وعادت من جديد لمحاولة السيطرة على أعداد السياح لحفظ آثارها، مؤكداً أن السعودية بعيدة عن هذه المخاوف لما لديها من وعي مؤسساتي، وأن هناك تأكيداً كاملاً من القائمين على برنامج خطة 2030، وحتى الخطط السابقة في هذا المجال، على ضرورة المحافظة على المواقع التاريخية والتراثية وحُسن تطويرها واستخدامها. كما أشاد بما تقوم به دولة الإمارات من جهود في هذا السياق.
مواقع بهجة
وأعرب الأمير سلطان بن سلمان آل سعود، عن رغبته في أن تكون المواقع التاريخية والتراثية مواقع بهجة وفرح، ويتذوق المواطن طعم بلده ويختلط مع الزوّار فيها، كما أشار في كتابه «من الاندثار إلى الازدهار»، حيث لا يقتصر معنى كلمة الازدهار فقط على الترميم، ولكنه يعني أن يتمتع المواطن بتراثه ويتذوقه ويسمعه ويشاهده، لافتاً إلى أن استدامة هذه المواقع يجب أن تراعي عدم تدمير المواقع، من خلال الضخ السياحي غير المدروس.
عمارة مستدامة
ودعا رئيس جمعية التراث العمراني، المهندس رشاد بوخش، المصممين المعماريين لاستلهام العمارة التراثية وتقديم نماذج وتصميمات معمارية متطوّرة منها، وهو تحد غير بسيط، موضحاً أن «العمارة التراثية تتحقق فيها معايير الاستدامة، سواء من حيث المواد المستخدمة فيها، وهي مواد طبيعية كانت متوافرة في البيئة المحلية، مثل الصخور المرجانية والطين وسعف النخيل، أو من حيث تصميم المدن والمباني»، مستشهداً بتصميمات مختلفة، من أبرزها تصميم مدينة دبي في عام 1950، وهو تصميم مستدام بنسبة 100%، حيث تتوسط القلعة المدينة، وإلى جانبها المسجد الجامع، ثم الأسواق وبعدها المناطق السكنية، لافتاً إلى أن تصميم المناطق السكنية القديمة بشوارعها الضيقة «السكيك»، تسهم في توفير الظل وتخفيف حرارة الطقس، بسبب زيادة اندفاع الرياح في الشوارع الضيقة، ما يخفض درجة الحرارة بمعدل 10 درجات تقريباً وفقاً لدراسة تم تنفيذها، كما تحقق الترابط الاجتماعي بين السكان مثل «حي الفهيدي» التاريخي، بينما تقوم البراجيل التي اشتهرت بها بيوت دبي بتلطيف درجة الحرارة داخل المنزل، كما في العديد من البيوت، منها بيت المغفور له الشيخ سعيد آل مكتوم في دبي، وبيت جده محمد بوخش التاريخي في «حي الفهيدي»، ومجلس إبراهيم المدفع في الشارقة، الذي تفرّد بتصميم البرجيل الدائري.
تصميم مستدام
استعرض بوخش نماذج مختلفة للعمارة القديمة، لافتاً إلى ما تتسم به من تصميم مستدام ومواد طبيعية، منها أقدم مستوطنة في دولة الإمارات والتي تقع في جزيرة غاغا بأبوظبي، وتعود إلى 6500 ق.م، متطرقاً إلى نماذج حديثة استلهمت هذه العمارة، مثل مدينة مصدر بأبوظبي وقرية سوق دبي المالي، ومنطقة مشيرب في الدوحة، ومشروع مجلس العريش بأبوظبي، وقرية القرنة في مصر، التي صممها المهندس حسن فتحي، وهي من أجمل النماذج المعمارية صديقة البيئة في العالم.
الاستدامة في المتاحف
أوضح عضو المكتب التنفيذي في المجلس الدولي للمتاحف (آيكوم)، المهندس أحمد محمود آل حرم، أن «متاحف الغد لن تكون كمتاحف اليوم من حيث الاستدامة وجودة الحياة، وسيتحول الدور التقليدي للمتحف من العرض إلى التفاعل في المجتمع المحيط به، وهو ما يرجع إلى أسباب
عدة، منها ازدهار السياحة الثقافية وإثراء تجارب الفرد، وهذا يمثل مورداً اقتصادياً مهماً للمؤسسات المتحفية، وتأكيد مفهوم علم النفس التعليمي من طرق العرض والاتصال مع الزوّار، وتطبيق مبدأ صناعة بلا تلوّث فزادت أهمية توظيف التراث الثقافي والمتاحف كمورد دخل اقتصادي»، متطرّقاً لمحاور أخرى، مثل مفهوم التنمية المستدامة والبُعد الاقتصادي والاجتماعي والبيئي لها، والعمارة الخضراء ونظام تقييم الهرم الأخضر، مستعرضاً نماذج من المتاحف المستدامة وفق نظام العمارة الخضراء، مثل متحف قطر الوطني، والمتحف المصري الكبير، ومتحف البيئة في الإمارات.
■ تصميم مدينة دبي في عام 1950 مستدام بنسبة 100%.
■ استثمارات كبيرة في السعودية لتحويل التراث الحضاري إلى اقتصاد جديد.