مستقبل الوظائف يتطلب بوصلة للمهارات: تحديات تواجه خريجي الإمارات
تواجه منظومة التعليم والتوظيف في دولة الإمارات تحدياً حاسماً، حيث أكد خبراء في التعليم والتوظيف ومرشدون أكاديميون أن مهارات الطلبة الحالية تتطلب تعديلاً جوهرياً لمواكبة متطلبات وظائف الغد. الحاجة أصبحت ملحة إلى وجود “بوصلة للمهارات” توجه الطلاب والمؤسسات التعليمية نحو التخصصات والقدرات التي يحتاجها سوق العمل المستقبلي. هذا الأمر يكتسب أهمية خاصة في ظل التسارع الهائل للتحولات الرقمية المدفوعة بالذكاء الاصطناعي والتقنيات الناشئة، والتي تهدد بفجوة متزايدة بين مخرجات التعليم واحتياجات الصناعة.
فجوة المهارات: واقع مقلق للشركات والخريجين
تشير البيانات إلى أن الوضع الحالي ينذر بمخاطر حقيقية. وفقاً لتقرير “وظائف المستقبل 2025” الصادر عن المنتدى الاقتصادي العالمي، يجد ما يقرب من 87% من الشركات صعوبة في استقطاب الكفاءات التي تمتلك المهارات الرقمية والتحليلية اللازمة. في الوقت نفسه، تتوقع المؤسسات الاقتصادية تحولات جذرية في طبيعة المهن خلال السنوات القليلة القادمة، بينما يبدو أن تحديث المناهج والبرامج الأكاديمية متأخراً عن ركب التطور السريع في القطاعات الاقتصادية المختلفة.
وزارة التعليم العالي والبحث العلمي تؤكد إدراكها الكامل لهذا التحدي وأهميته، وتعمل بشكل وثيق مع مختلف الجهات المعنية لإعادة هندسة التخصصات المستقبلية من خلال منهجية استشرافية جديدة. الهدف هو ترجمة هذه التوجهات إلى تعديلات جوهرية في البرامج الدراسية وآليات التعلم، لضمان حصول الطلاب على المهارات المطلوبة في سوق العمل الذي لا يتهاون مع من يتخلف عن الركب.
أصوات من الداخل: طلاب وخريجون يتحدثون عن التحديات
آراء الطلاب والخريجين الجامعيين تعكس بوضوح حجم الفجوة بين ما يتلقونه في الدراسة وما يتطلبه سوق العمل. لا يزال العديد من المناهج والبرامج الأكاديمية تركز على النظريات التقليدية، بينما تسعى الشركات والمؤسسات إلى توظيف أفراد يتمتعون بمهارات متقدمة في مجالات مثل الذكاء الاصطناعي، وتحليل البيانات الضخمة، وتصميم الحلول الرقمية المبتكرة.
أدوات غير مألوفة
“نحن ندرس ما حدث في الماضي، بينما يتحرك سوق العمل بسرعة نحو المستقبل” تقول خلود محمد، خريجة إعلام. “نركز على تحليل البيانات وأدوات رقمية لا نجدها في برامجنا الأكاديمية. أغلب مشاريعنا نظرية، ولا نستخدم البرامج التي تتطلبها المؤسسات الإعلامية اليوم.” وتضيف أن زملاءها يعتمدون بشكل كبير على التعلم الذاتي لتعويض هذا النقص، خاصة في استخدام أدوات متخصصة مثل Google Analytics و Power BI، بالإضافة إلى تعلم كيفية إنتاج محتوى مدعوم بالذكاء الاصطناعي.
تشارك تالا محمد، خريجة حديثة من قسم التسويق، تجربة مماثلة: “خلال مقابلات العمل، سُئلت عن مهارات التفكير التصميمي والتحليل الرقمي. لكننا لم نتعلم هذه المهارات في الجامعة، ولا نعرف كيف نقيس أداء الحملات التسويقية الرقمية. المناهج لا ترقى إلى سرعة التغيير في هذا المجال.”
الحاجة إلى توجيه مهني مبكر
لا يقتصر التحدي على المناهج الجامعية، بل يمتد ليشمل مرحلة التعليم الثانوي. سراج الدين عمور، طالب في المرحلة الثانوية، يوضح هذه النقطة: “نحتاج إلى منصة توجهنا نحو المهن التي ستزدهر في المستقبل. عادة ما نختار التخصص بناء على ميولنا الشخصية أو آراء الأهل، ولا أحد يشرح لنا الفرق بين تخصص مطلوب اليوم وآخر قد يصبح من الماضي.” ويؤكد أن الكثير من زملائه يتخذون قراراتهم التعليمية دون فهم واضح للاتجاهات المستقبلية لسوق العمل.
التخصصات العلمية ليست بمنأى عن التحدي
حتى في التخصصات العلمية، يزداد اتساع الفجوة التقنية. يقول خالد محمد، طالب هندسة: “نتعلم الأساسيات في الهندسة، لكن الشركات تحتاج إلى أدوات وتقنيات حديثة لا ندرسها. خلال فترة التدريب، اكتشفت أن الشركات تستخدم النمذجة المتقدمة والمحاكاة الرقمية بشكل مكثف، بينما مناهجنا الدراسية متأخرة عن هذا التطور.” ويشير إلى أن بعض البرامج الهندسية لم يتم تحديثها منذ سنوات، على الرغم من التطورات الكبيرة في مجال الذكاء الاصطناعي وتطبيقاته الهندسية.
استطلاعات الرأي تؤكد الفجوة الحقيقية
أظهر استطلاع للرأي حديث، أجرته “الإمارات اليوم” بالتعاون مع وزارة التعليم العالي والبحث العلمي وشمل 420 طالباً وخريجاً، وجود فجوة حقيقية بين ما يتعلمه الطلاب وما يحتاجونه في سوق العمل. أشار 42% من المشاركين إلى أن “التفكير النقدي” هو أهم مهارة يجب أن يمتلكها الطالب قبل الالتحاق بالجامعة، مما يعكس وعياً متزايداً بأهمية القدرة على التحليل واتخاذ القرارات المستنيرة.
في المقابل، حصلت مهارات التواصل والعمل الجماعي على نسبة منخفضة لم تتجاوز 12%، مما يدل على ضعف الوعي بأهميتها الجوهرية في بيئة العمل، على الرغم من أن هذه المهارات تعتبر من أهم معايير التوظيف على مستوى العالم.
توجيه التعليم نحو مستقبل الوظائف
فيما يتعلق بمتطلبات سوق العمل، كشف الاستطلاع عن تحول واضح في وعي الطلاب، حيث رأى 60% أن “المهارات الرقمية والتقنية” هي الطريق الأمثل للحصول على فرص عمل جيدة. في حين أكد 38% من المشاركين على أهمية الابتكار وريادة الأعمال.
أظهرت استبيانات تقييم البرامج الجامعية الحالية فجوة ثقة واضحة، حيث يعتقد 55% من الطلاب أن التدريب الجامعي “غير كافٍ” لاكتساب مهارات المستقبل، بينما يرى 24% أنه يحتاج إلى “تطوير كبير”. هذا يعني أن أكثر من ثمانية من كل عشرة طلاب يشعرون بأن المناهج الحالية لا تتناسب مع الاحتياجات المتغيرة لسوق العمل.
“منصة وطنية للمهارات”: ضرورة ملحة
يجمع الخبراء في مجالات التعليم والاقتصاد وريادة الأعمال على أن سد فجوة المهارات يتطلب جهوداً متضافرة من جميع الأطراف، وعلى رأسها مؤسسات التعليم العالي نفسها. تشير الآراء إلى أن مسؤولية الجامعات لم تعد تقتصر على تقديم المعرفة النظرية، بل يجب أن تشمل تمكين الطلاب من المهارات التطبيقية، وتحسين جودة التدريب العملي، ودمج التقنيات الحديثة والمهارات الرقمية في البرامج الدراسية.
كما يؤكدون على أهمية إنشاء “منصة وطنية للمهارات” لتوفير بيانات دقيقة ومحدثة حول احتياجات سوق العمل، ومساعدة الطلاب على اتخاذ قرارات تعليمية مستنيرة، وربط مخرجات التعليم بمتطلبات الصناعة.
الإمارات: ريادة في مجال تطوير المهارات
تتمتع دولة الإمارات بفرصة ذهبية لتعزيز ريادتها في هذا المجال، خاصة مع التوسع الهائل في قطاعات الذكاء الاصطناعي، والأتمتة، والتحليلات الضخمة، والصناعات الإبداعية، والتقنيات الحيوية. هذه القطاعات تتطلب مهارات تتغير بسرعة فائقة، مما يجعل من الضروري وجود نظام مرن وقادر على التكيف مع هذه التغيرات.
الاستثمار في المستقبل
الاستثمار في منصة وطنية للمهارات اليوم، سيحدد مدى تنافسية اقتصاد الإمارات في المستقبل. فمن يمتلك البيانات، يمتلك القدرة على التخطيط والتوجيه والابتكار. يجب أن توفر هذه المنصة معلومات آنية حول الوظائف الأكثر طلباً، وخرائط كفاءات ومهارات محدثة بانتظام، ومسارات مهنية واضحة تبدأ من المدرسة، وتكاملاً فعالاً بين الجامعات وجهات التوظيف.
وبحسب تقارير منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD) فإن سوق العمل يواجه تحولات هيكلية كل 18-24 شهراً بينما تتغير المناهج كل 7-10 سنوات، مما يبرز ضرورة تسريع وتيرة التحديث.
الخلاصة: التحول في التعليم هو مفتاح النجاح
إن تحدي فجوة المهارات يتطلب رؤية شاملة وجهوداً متكاملة. من خلال الاستثمار في التعليم، وتحديث المناهج، وربط التعليم باحتياجات سوق العمل، وإنشاء منصة وطنية للمهارات، يمكن لدولة الإمارات أن تضمن أن خريجيها مجهزون بالمهارات اللازمة للنجاح في وظائف الغد، والمساهمة في بناء اقتصاد قوي ومستدام. التحول في التعليم ليس مجرد ضرورة، بل هو استثمار في مستقبل الإمارات.
