كان من المفترض أن يكرّس هذا المقال لمتابعة الحوار مع الأستاذ عبد المجيد حمدان، لكنّ مقالي السابق حول “الترامبية”.. والشرق الأوسط، لم يستكمل من زاوية هذا العنوان، أو من زاوية الفرصة، ولذلك فإن الرد والحوار مع حمدان سيتواصل، وربما يتعمق حول عناوين تحتاج إلى التعميق، وحول اليهودية واليهود والصهيونية وإسرائيل، وهي مفاهيم ومقولات ومفاصل تحتاج إلى إعادة تقييم فعلاً، ونحتاج جميعاً للمشاركة في الحوار حولها.
أما حول سؤال هذا المقال، فالإجابة عنه ممكنة مهما بدت مبكّرة، ومهما بدت صعبة في هذه المرحلة شريطة أن نعتبرها مجرّد بداية، أو أن نعتبرها أوّلية، وهي المطلوبة في هذه المرحلة.
برأيي أنّ الإجابة تصبح ممكنة إذا أجبنا عن عدة أسئلة تسبق الإجابة الأولية، ومن دون مثل هذه الإجابات عن هذه الأسئلة العديدة سندخل في عوالم غير منسجمة من زاوية منهج التحليل، بل وربما ندخل في عوالم تفتقد للترابطات المنطقية لهذا التحليل.
السؤال الأوّل: ماذا تمثّل “الترامبية” في إطار ما طرأ من عوامل جديدة تتعلّق بالنظام الرأسمالي نفسه، بصرف النظر عن المدرسة الاقتصادية التي تتسيّد إدارة هذا النظام؟
السؤال الثاني: وتأسيساً على ما ذكر أعلاه، هل هناك فرصة واقعية لأن تنتصر “الترامبية” في إطار التنافس داخل الولايات المتحدة؟ وماذا يعني مثل هذا الانتصار؟
السؤال الثالث: كم من الزمن تحتاج “الترامبية” لكي تبسط نفوذها داخلياً وخارجياً؟ وكيف ستكون عليها السياسات “الدولية” لها حتى نرى معالم “الفرصة” التي أشرنا إليها؟ وهل يمكن العودة إلى “تقاسم” النفوذ مع روسيا في أوروبا؟ وكيف سيكون شكل “الصراع والتنافس مع الصين؟”.
بطبيعة الحال لا يمكن الإجابة عن أسئلة كبيرة كهذه، وليس بالإمكان أصلاً أن تتم مثل هذه الإجابات؛ لأن الفكر الاقتصادي والسياسي لم يعالجها بعد بالقدر الكافي والضروري، ولكن بالإمكان أن تثار بعض الملامح التي تساعدنا في منهاج الاستقرار العام فقط.
نعرف جميعاً أن البشرية لم تخترع بعد نظرية أهمّ وأعمق من النظرية الماركسية في تحليل الرأسمالية، واستقراء تطوّر المجتمع الرأسمالي، وتحديد مسارها العام ومآلاتها المستقبلية، ونعرف كذلك أنها هي النظرية التي “فكّت” شيفرة هذا النظام بأن أعادته إلى الخليّة الأولى، وبحيث أصبح بالإمكان أن نقيس “ملوحة البحر” من خلال قطرة واحدة، ولم نعد نحتاج لقياس هذه الملوحة بأن نقيس كل قطرة فيه.
نظرية الاستحواذ على فائض القيمة، التي تعتبر ركن الأساس في تحليل واستقراء تطور الرأسمالية، أثبتت التجربة التاريخية أنها صحيحة ودقيقة رغم كل التطورات والتمحورات والتحولات التي طرأت على أشكال إنتاج هذه القيمة المضافة، وإعادة توزيعها، وطرق الاستحواذ عليها.
لكن النظرية الماركسية لم تتمكن من استقراء قدرة النظام الرأسمالي على “التكيّف، ولا على أشكال هذا التكيّف، ولا حتى على الأشكال “الالتفافية” التي لجأ إليها النظام الرأسمالي في إطار عمليات التكيّف.
ولهذا، فإن الأمر كلّه يتعلّق فيما إذا كانت عمليات التأقلم قد تم استنفادها بالكامل أم لا، وفيما إذا تحوّلت وأصبحت عمليات التأقلم الجديدة تأتي لمعالجات وإصلاحات تتصل بالبُنى والهياكل التي تستمرّ في إنتاج الأزمات، أم تتصل بأشكال إدارتها.
الأزمة الحالية كما تبدو لم تعد لا هذه فقط، ولا تلك فقط، لأنّ ثمة تناقضاً يتحول إلى تناقض تناحري بين أي شكل من أشكال إدارة الأزمات وبين أي إصلاحات هيكلية؛ وذلك لأن الثورة العلمية المتسارعة بصورة صاروخية تبقي الهوّة غير قابلة للردم، وبذلك تتقادم البُنى والهياكل بصورة أكبر، وتصبح عملية التحديث تطال وتمسّ الملايين، وتصبح كلفة تسليح البُنى والهياكل المتقادمة كلفة اقتصادية ومالية هائلة، لكن كلفتها الاجتماعية أكبر وأخطر.
إذا كان ما ذكرناه في هذا الاختصار صحيحاً – وهو ليس صحيحاً بعد، وهو افتراض أوّلي ليس إلّا – فإن “الترامبية” ليست تعبيراً عن أزمة مدرسة اقتصادية، لأنها فلسفة للإدارة في رؤية الخروج من أزمة الاقتصاد الأميركي، وهي فلسفة لن تتحوّل إلى مدرسة إلّا إذا انتصرت خارج حدود الولايات المتحدة، وهي عندما تتحول إلى مدرسة “جديدة” ستكون قد أطاحت بالمدرسة “النيوليبرالية”، وبالكلفة العالية لشبكات الحماية الاجتماعية، وستكون قد “تجاوزت” أنماط الحكم “الديمقراطي”، وستكون قد أعادت إدماج الشركات الاحتكارية في إدارة الاقتصاد، ما سيحوّل الدول الرأسمالية إلى نمطٍ أقرب إلى الفاشية من رأسمالية الدولة الاحتكارية.
فإذا كانت المرحلة الإمبريالية هي أعلى مراحل الرأسمالية، فستكون “الدولة” الرأسمالية، بهذه السمات الجديدة من إعادة تركيز رأس المال، وإعادة مركزة دوره في السياسة الاقتصادية، هي آخر مرحلة من تطور الرأسمالية طالما أن الاقتصاد الاجتماعي قد أخلى الطريق أمام إفلاس المدرسة “النيوليبرالية”، وأمام احتكار ومركزة وتركيز الرساميل، و فتح الطريق واسعاً أمام أنماط من الحكم تمنع أشكالاً جديدة للتكيّف الذي عهدناه في المراحل المختلفة من تاريخ الأزمات الكبيرة من تطور الرأسمالية.
أقصد أن “الترامبية” هي فلسفة إمساك وتحكُّم بالاقتصاد، وليست مدرسة جديدة أو متفرعة عن مدرسة سابقة. وهي ليست مدرسة اقتصادية جديدة من زاوية المواءمة والتوفيق بين “النيوليبرالية” وبين المدرسة الكلاسيكية، وهي ليست مدرسة للاقتصاد الاجتماعي، وليست نمطاً جديداً من أنماط دمج الاقتصاد الأميركي بالاقتصاد العالمي، وإنما “عزلة” هذا الاقتصاد النسبية، وإلى زمن معيّن، حتى يصار إلى “التعافي” المطلوب، ما يعني سياسات الحمائية الاقتصادية التي ستدمّر الكثير من الشركات الأميركية نفسها.
لهذا، فإن “الترامبية” أحد أكبر وأهمّ مؤشّرات طبيعة وعمق ما وصلت إليه الرأسمالية من أزمات بلا قدرات جديدة على التكيّف.
وعليه يمكن اعتبار “الترامبية” محاولة، قد تكون الأخيرة، لإنقاذ الاقتصاد الرأسمالي في أميركا من التهاوي السريع، وهي حالة من وقف التدهور، ومنع الانهيارات الواسعة دون أيّ ضمانات بأن شيئاً من هذا سيحدث، أو أن “الترامبية” ستنجح.
لهذا، أيضاً، فإن “الترامبية” إن نجحت، فسيكون نجاحها محصوراً في مسألتين:
الأولى، إبطاء عملية التدهور، وتفادي التهاوي المدمّر.
والثانية، دفع كلفة عالية على المستوى الداخلي والخارجي للوصول إلى مثل هذا الهدف.
وإذا كانت تقديرات “خبراء الترامبية” أنّ هذا هو أبعد هدف ممكن – ويبدو أنهم عند هذا الرأي – فإن الحروب تصبح خارج طاولة البحث، وتصبح المنافسة محصورة في مجالات مختلفة، ويصبح البحث عن الموارد الخارجية خارج نطاق الحروب، ويتحول الجهد إلى تحويل “الخارج” من سبب للإنفاق إلى مصدر للدخل بصرف النظر عن الوسائل.
التنافس مع الحلفاء، وعلى حسابهم، هو المجال المتاح، والحدّ من الإنفاق هو السبيل الوحيد، والحاجة إلى الاستقرار النسبي هو الطريق. الزمن الذي تحتاجه “الترامبية” يمكن أن يكون عدة سنوات، وفي أثناء هذه السنوات سيتم إطفاء الحرائق بما فيها بالشرق الأوسط.
وبسبب حساسية الشرق الأوسط، فإن “الترامبية” مطالبة “بحلّ” ما، وخلال السنوات القريبة القادمة لا تملك الأخيرة؛ بسبب ضعف الولايات المتحدة الكلي، إلّا أن تجد حلّاً للقضية الفلسطينية، بعد أن لمست وتأكّدت أنه يستحيل الاستقرار النسبي في هذا الإقليم بمعزلٍ عن مثل هذا الحل.
لهذا كلّه، فإن ثمة فرصة لكي يتم من خلال هذا “الحلّ” إحباط مشروع تصفية الحقوق الوطنية، والانتقال بها إلى مرحلة جديدة، لا تلبيها، ولكنها تمنع تصفيتها.
إذاً نحن لسنا أمام إنجاز حل وطني متكامل، ولكننا أمام إنجاز أهمّ وأكبر، وضروري، وهو إسقاط الحلّ الصهيوني، وهذا هو مدخل الحلّ الوطني، التقاسم وإعادة هذا التقاسم مع روسيا والصين يزكّي هذا الطرح تماماً.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية