ما شهدته الأراضي الفلسطينية المحتلة، منذ أكثر من 15 شهراً، وتركّزت أحداثها الدامية على قطاع غزّة، ليست سوى جولة في سياق صراع متصل، على طريق إنجاز الشعب الفلسطيني لحقوقه الوطنية المشروعة.
كان معلوماً للجميع أن تكلفة تحقيق الشعب الفلسطيني لأهدافه الوطنية واستعادة حقوقه المشروعة، ستكون باهظة، ومكلفة جداً، خصوصاً وأن الشعب الفلسطيني الذي امتشق السلاح في كانون الثاني/ يناير 1965، قرّر أن يأخذ زمام المبادرة بنفسه بعد أن خذله النظام العربي الرسمي ابتداءً من حرب العام 1948.
ومنذ ذلك الوقت دفع الشعب الفلسطيني أثماناً باهظة تشهد عليها سجّلات منظمة التحرير الفلسطينية، من حيث أعداد عشرات آلاف الشهداء والأسرى والجرحى، وتشهد عليها الأثمان الباهظة التي دفعها الشعب الفلسطيني خلال العدوانات الإسرائيلية المتكرّرة في كلّ أنحاء الوطن.
بعد 15 شهراً على حرب الإبادة والتجويع والتدمير الشامل، يقف المرء على حصيلة ثقيلة من الثمن المدفوع، لكنها لا تذهب هدراً، فلقد نسف الشعب الفلسطيني السردية الإسرائيلية على المستوى العالمي، ونسف اتهامات الكثير من العرب، الذين لتبرير تخاذلهم حمّلوا الشعب الفلسطيني المسؤولية عن بيع أراضيه والتخلّي عن حقوقه.
غزّة علّمت على الجميع، ابتداءً من الأنظمة العربية الرسمية التي لم تتوقف عن تهميش القضية الفلسطينية، وقطع الدعم عن السلطة الوطنية، وممالأة دولة الاحتلال وأميركا، وأظهرت عجز الأمتين العربية والإسلامية، وحطّمت منظومة القيم الدولية، التي تلاعبت بها أميركا وشركاؤها الدوليون لصالح الدولة العبرية، ونشر الظلم.
ما جرى مجرّد جولة في صراع مستمر، حتى يحقق الشعب الفلسطيني أهدافه كاملة، ولكنها جولة قرّبت آجال تحقيق تلك الأهداف. مع بدء سريان اتفاق التهدئة، أمس الأحد، ت فتح صفحة جديدة يريدها نتنياهو أن تكون مؤقّتة، وسيبذل كل ما في جعبته من حيل لكي يفشلها في مراحلها اللاحقة، ويواصل الحرب التي يعترف أنّها لم تحقق أهدافها بعد.
يدّعي نتنياهو أمام مناصريه وأركان ائتلافه الحكومي الفاشي أنّه حصل على ضمانات أميركية بمواصلة الحرب، لكن من أرغمه على القبول بالاتفاق، ونقصد دونالد ترامب، يتحدث عن عزم لإنهائها، ويكلّف مبعوثه ستيف ويتكوف بالإقامة في المنطقة لضمان تنفيذ الاتفاق بالكامل خلال مراحله الثلاث، ووقفها.
هذه المطالعة، لا تقصد تقديم تقييم شامل، لنتائج الحرب، التي ستتوقف إثرها آلة الحرب التدميرية الإسرائيلية عن معاودة ما شهدته الأشهر الـ15 المنصرمة، لكنها استهلال للإعلان شخصياً عن استغرابي الشديد مما نقرأ ونسمع من مواقف لفلسطينيين تتّسم بالجهالة والإحباط والمزايدة على دماء الشهداء والجرحى، والتقليل من حجم الإنجاز.
في دولة الاحتلال تسود مناخات الحسرة والحزن، الذي يعكس الفشل الذريع، ويتقاذف الكلّ مع الكلّ، الاتهامات بالمسؤولية عن الإخفاق، وتشهد المزيد من الانقسامات العميقة، وينتظر المسؤولون السياسيون والعسكريون والأمنيون نتائج التحقيقات المؤلمة وآثارها المتوقّعة.
في غزّة، احتفل الناس، بمجرّد أن وصلتهم أنباء التوصل إلى الاتفاق عبر الدبكات الشعبية، والأهازيج، والفرح، رغم فداحة المصاب، وينتظر الناس على أحرّ من الجمر العودة إلى بيوتهم المدمّرة وأراضيهم.
في فيينا، ولندن، وبرلين تخرج التظاهرات، احتفالاً بالانتصار، ويرفعون شعارات تطالب بملاحقة ومعاقبة مجرمي وجناة الحرب الإبادية، ومطالبة دولهم، بوقف إمداد دولة الاحتلال بالأسلحة.
مواقع التواصل الاجتماعي تضجّ بالتعليقات السخيفة المغرضة وبعضها بلغة تتجاوز حدود الأدب، ولكنها، أيضاً، تضجّ بالتغريدات التي تشيد بفلسطين وأهل غزّة، ونسائها اللواتي يرفعن رأس الأمّتين العربية والإسلامية، خلال هذه الحرب الدامية، تجود قرائح الشعراء العرب، والكثير من الفنانين، والزجّالين، بقصائد، وإشادات، بأهل فلسطين كما لم يحصل من حيث الكمّ، وعمق المعاني.
لذلك فإنني أتمنّى من كتّابنا، وسياسيّينا، ونشطاء التواصل الاجتماعي، والمتدخّلين والمتطفّلين المغرضين والجهلة أن يعودوا إلى رشدهم، وأن يؤجّلوا انتقاداتهم، وتدخّلاتهم السلبية، والاستهانة بدماء المظلومين.
نفهم أنّ الساحة الفلسطينية والسياسة محكومة لمسارين متعارضَين إزاء كيفية وأشكال متابعة الصراع، ومحكومة لمخاوف متبادلة من قبل الفاعلين الرئيسيين، ما ينجم عنه اختلاف في المواقف واختلاف للنظر في تقييم الأحداث ومآلاتها، ولكن ينبغي أن يخوض الفلسطينيون حواراتهم الصعبة، بما تتطلّب المسؤولية عن الالتزام بقواعد تحترم الشعب وآلامه واحتياجاته، وعلى الرغم من اختلاف وتضارب المسارات، إلّا أنّ الشعب كلّه، بكلّ فئاته وفصائله ومؤسّساته، موحَّد ضد العدوان والاحتلال، ويرفع الأهداف والشعارات ذاتها.
وقف المقتلة، سواء كانت مؤقّتاً، أو مستداماً بالمعنى النسبي، يفتح المجال لعمل كبير، ضروري ومطلوب وعاجل، ليس فقط من قبل المجتمع الدولي والنظام العربي الذي عليه أن يجد الطريقة المناسبة للتعويض عن عجزه وتخاذله، في الانتصار لأهل غزّة خلال مجريات حرب الإبادة.
مرّة أخرى، وبعيداً عن التوقعات والآمال والدعوات، غير الموضوعية، فيما يتعلّق بسياسات ومواقف الدول العربية والإسلامية، خلال المرحلة المقبلة، يحتاج سكان القطاع لدخول فرق عربية متخصّصة من أطباء وممرّضين، وفنّيين، وأدوات عمل، يحتاج سكّان القطاع إلى وصول الصحافيين، والكتّاب، لإجراء تحقيقات وتسجيل شهاداتهم لما ارتكبه جيش الاحتلال الإسرائيلي من فظائع وجرائم.
يحتاج سكان القطاع، إلى وصول ممثّلين عن المجتمع المدني، خصوصاً العاملين في مجال حقوق الإنسان، فهذا وقتهم، للتعبير عن تضامن حقيقي ملموس، يتجاوز لغة البيانات والإدانات النظرية.
يحتاج أهل غزّة إلى كلّ أشكال وأنواع العون وإلى أن يشاهدوا أشقاءهم العرب، بين ظهرانيهم، فقد يعوّض ذلك عن الشعور بالخذلان والوحدة.
دولة الاحتلال والإجرام، خلال الحرب، وقبل الحرب، دأبت على منع فرق التحقيق الدولية من الدخول إلى الأراضي المحتلة، ومنعت المتضامنين الدوليين، وفرضت عليهم قيوداً جائرة، الهدنة حتى لو أنها مؤقّتة، فإنها ينبغي أن تتيح المجال لمؤسسات حقوق الإنسان الدولية، والجنائية الدولية، ومحكمة العدل، ومنظمة العدل، ولكلّ نشطاء حقوق الإنسان، والمتضامنين مع الشعب الفلسطيني أن يدخلوا إلى القطاع، لإنجاز ما منعتهم دولة الاحتلال من إنجازه.
يتوقف القتال، وينبغي أن يفتح ذلك المجال لورشة دولية، نشطة، من أجل ملاحقة مرتكبي الإبادة الجماعية وحرب التجويع، ولا بدّ لكلّ فلسطيني من أن يقوم بدوره، ابتداءً من منظمة التحرير الفلسطينية إلى السلطة الوطنية الفلسطينية، والسفارات الفلسطينية، إلى كل مكونات الشعب الفلسطيني.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية