مجلس وفاة أم البنين كامل مكتوب: سيرة العطاء والفداء
في ذكرى رحيل السيدة أمّ البنين (عليها السلام)، تتجدد سيرة امرأةٍ شكّلت علامة فارقة في الذاكرة الدينية والإنسانية معًا. لم تكن مجرّد اسمٍ في التاريخ، بل صوتًا للأمومة الصابرة ووجهًا للوفاء الذي لا يبهت مع الزمن. وبين صفحات سيرتها، تتقاطع قيم الإيثار والشجاعة، لتبقى قصتها شاهدة على دور المرأة في صناعة المواقف الكبرى وترسيخ معاني التضحية في وجدان الأجيال. إن مجلس وفاة أم البنين كامل مكتوب هو تذكير دائم بهذه القامة الأنثوية التي وهبت كل ما تملك في سبيل آل البيت (عليهم السلام).
البداية الطاهرة ونسبها العريق
وُلدت أمّ البنين، واسمها فاطمة بنت حزام الكلابية، في بيتٍ عُرف بالشجاعة والكرم في المدينة المنورة. كانت تنتمي إلى قبيلة بني كلاب، وهي من أعرق القبائل العربية وأكثرها نجابةً. ولكن ما ميزها عن غيرها لم يكن النسب وحده، بل طُهر قلبها وعمق إيمانها. هذه الصفات كانت باديةً للعيان حتى قبل زواجها من أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام).
زواجها من علي (عليه السلام) ومنزلتها في قلبه
لم يكن زواج الإمام علي (عليه السلام) من أمّ البنين مجرد زواج عادي، بل كان اختيارًا مُبَرَّرًا لعدة أسباب. كان الإمام (علي السلام) يبحث عن امرأةٍ تكون له سندًا وعونًا في تربية الأبناء، خاصةً بعد فقدان السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام). وقد وصفها الإمام (عليه السلام) بأنها “امرأة ذات حسبٍ ودين، تصلح لبيت النبوّة”.
ومن الجدير بالذكر، أن أمّ البنين طلبت من الإمام علي (عليه السلام) عند زواجها ألا يناديها باسم “فاطمة”، احترامًا لزوجته الأولى السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام). هذا التواضع العظيم يدل على عمق إيمانها وتقواها ورغبتها الصادقة في خدمة آل البيت (عليهم السلام).
أمّ لأبناء الحسين (عليه السلام)
رزقها الله من الإمام علي (عليه السلام) أربعة أبناءٍ أبطال: العباس، وعبد الله، وجعفر، وعثمان. وهبت أمّ البنين كل حبها وعطفها لهؤلاء الأبناء، ولكنها كانت تعلم أنهم فداءٌ للحسين (عليه السلام). كانت تردد على مسامعهم دائمًا: “كونوا سيوفًا في يد الحسين، واحفظوا وصية أبيكم بحقه”. وهي بذلك لم تزرع فيهم حب الحياة بل حب الشهادة في سبيل الله. مجلس وفاة أم البنين كامل مكتوب يركز بشكل خاص على هذه العلاقة الأمومية الفريدة.
وداع الأبناء إلى كربلاء
عندما قرر الإمام الحسين (عليه السلام) الخروج إلى كربلاء، ودّعته أمّ البنين بقلبٍ مكسور. جمعت أبناءها الأربعة وأوصتهم بالبقاء إلى جانبه وعدم التخلي عنه. لقد أدركت أمّ البنين حجم المصيبة التي تنتظر الحسين (عليه السلام)، ولكنها صبرت واحتسبت، وقدمت أبناءها فداءً له. وقالت لهم بكلماتٍ خالدة: “إياكم أن تتقدّموا على الحسين… هو إمامكم، وإن حدث له شيء فلا ترجعوا إليّ.”
مصيبة كربلاء وحزن أم البنين
عندما وصل خبر استشهاد الإمام الحسين (عليه السلام) وأبنائها إلى أمّ البنين، لم تسأل عن العباس أولًا، ولا عن عبد الله ولا جعفر ولا عثمان. بل سألت عن الحسين (عليه السلام)، وقالت: “أخبرني عن الحسين… فكلّهم فداء له”. عندما تأكد لها الخبر، سقطت على الأرض وهي تردد: “وا حسيناه… ليتني كنتُ قبل هذا اليوم!”. وقد تحول بيت أم البنين إلى بيت عزاءٍ دائم، وكانت تخرج إلى البقيع كل صباح لتبكي على مصابها.
رثاء أم البنين ومواساة زين العابدين (عليه السلام)
عُرفت أمّ البنين بشعرها المؤثر الذي رثت به أبناءها الأربعة والحسين (عليه السلام). من أشهر أبياتها:
“لا تَدْعُـونِي وَيْكَ أُمَّ الْبَنِـين
تُذَكِّرِينِي بِنُيَـانِ الأَرْبَعِـين
قَدْ كَانَتِ الأَرْبَعَةُ مِثْلَ نُسُـورٍ
يَحْمُونَ حَامِي حَوْزَةِ الدِّين”
وقد كان الإمام زين العابدين (عليه السلام) يزورها ويعزيها، ويقول لها: “يا أمّ البنين… لقد أنار الله قلبك بحبّنا كما أنار قلوب المؤمنين.” أم البنين هي رمز للأمومة التي لا تعرف حدودًا للتضحية.
السنوات الأخيرة ووفاتها
عاشت أمّ البنين بعد كربلاء تسع سنوات أو أقل، وهي تعيش على ذكرى أبنائها والحسين (عليه السلام). وقد ضعفت صحتها تدريجيًا بسبب كثرة البكاء والحزن، حتى فاضت روحها إلى بارئها في الثالث عشر من جمادى الآخرة. وشيّعها أهل المدينة تشييعًا مهيبًا، ودُفت في البقيع، مُنتظرةً قيام القائم (عجل الله فرجه). ولا يزال مجلس وفاة أم البنين يقام في أنحاء العالم الإسلامي تكريمًا لذكرى هذه السيدة الجليلة.
خاتمة
إن السيدة أمّ البنين (عليها السلام) هي قدوة للمؤمنين والمؤمنات في الإيثار والصبر والوفاء والتضحية. قصتها تعلمنا أن الأمومة ليست مجرد رابطة دم، بل هي مسؤولية عظيمة وشهادة أمان للمجتمع. فلنتذكر أمّ البنين في كل وقت، ونسعى إلى الاقتداء بها في سلوكنا وأخلاقنا. وندعو الله بحقها أن يجعلنا من الذين يتبعون طريق الحق والعدل، وأن يوفقنا لخدمة أهل البيت (عليهم السلام). اللهم صل على محمد وآل محمد، واجعلنا من شيعتهم المخلصين.
