كل صباح أبدأ يومي بتفقد من تبقى من الأهل في غزة …. فقدت الجزء الأكبر وبقي منهم الأقل، هكذا تبدو التراجيديا الحزينة التي ترافقنا بلا كثير من الحياة، نتكئ على أوجاعنا فتلسعنا مع كل حركة تهتز فيها الروح بلا قدرة كبيرة على النجاة وسط بحر من الألم تتلاطم أمواجه بعنف وتهدد من تبقى ….. إنه كابوس الواقع الذي أفقنا عليه ذات صباح وما زال ليله الطويل يتمدد بكل ثقله الذي لا يحتمل.
يبدو أمامي الخوف والعيون المذعورة لرجال عرفتهم ولم تكسرهم السجون والمواجهات فكسرهم النزوح المستمر والفقد المستمر والحاجة المستمرة والإرهاب المستمر، ووقوفهم أمام من تبقى من أطفالهم وعجزهم عن حمايتهم إلا الهروب وقلة حيلتهم عن توفير الطعام.
كل شيء هناك يشبه صليباً محشواً بالمسامير، فالروح تدمي والعقل يدمي والقلب والخاصرة تنزفان بلا توقف وقلبي البعيد يعد خساراته بلا توقف.
مع كل أساليب الإرهاب التي تتجلى وتمارسها إسرائيل صباح مساء وفي الظهيرة وفي الليل فإن الوقت في غزة يعد بعقارب الجثث وعويل الثكالى وصراخ من ينضمون بلا توقف لقائمة اليتامى، لكنّ لوجع الجوع التي تمارسه إسرائيل عمداً كما أوصى وزير دفاعها المخلوع منذ بداية الحرب طعماً آخر فكيف يحتمل الناس ؟.
أسمع أنين الوجع في مكالماتهم ومناشداتهم وصوتهم المقهور بالعذاب الذي ينزل عليهم بلا توقف ؟
غزة تجوع هل يفهم العالم ؟ إنه العذاب الذي لا يفهمه سوى الغزيين أو الذين جربوا الإضراب في السجون فهم يعرفون ماذا يعني أن يتوقف الجسد عن الحصول على الطعام، ويعرفون طبيعة الألم في الجسم كيف تصدر المفاصل وجعاً كصرير الأبواب القديمة ولا يمكن احتماله في الحركة وفي السكون أكثر، وتلك أشياء لا يمكن وصفها على الورق فقط يمكن القول إنها موت مؤلم.
غزة تجوع في القرن الحادي والعشرين بعد قتل نسبة كبيرة من سكانها، يبدو الرقم مهولاً إذا ما أجريت حسابات النسبة والتناسب لدول كبرى تجوع على مرأى ومرمى من العالم من الأعداء والأصدقاء والخصوم وكل المتفرجين وصناع الروايات ومخرجي الأفلام والسياسيين الذين يحسبون لاستثمار الدم في عداد لا يتوقف. كيف يمكن أن يشاهد كل هؤلاء أقسى مجاعة تصنعها إسرائيل ويسكتون ؟
أن تجوع غزة هذا معناه مسألتان لا ثالث لهما، إما أن العالم بكل مكوناته الإسلامية والعربية والدولية غير قادر على إدخال كيس من الدقيق وتلك مصيبة أو أن هذا العالم بكل مكوناته يوافق على تجويع غزة واستخدام كل أدوات الموت، ففي الأولى ما يثير الشك لأن إسرائيل مجرد دولة صغيرة في الكرة الأرضية ونفوذها وقوتها بالكاد يتجاوزان حدودها ولم يعد مقنعاً أن تلك الدولة تستطيع فرض قوتها بهذا الشكل، ما يعني أن تواطؤ الجميع مع ما تفعله إسرائيل أقرب للمنطق، ويبدو أن غزة التي حملت راية القضية الفلسطينية وأحدثت هذا القدر من الصخب لعقود يريد العالم أن يرتاح منها مرة وللأبد.
تقرير الأمم المتحدة يؤكد أن 70 % ممن قتلتهم إسرائيل هم من الأطفال والنساء، ولا يحتاج العالم إلى أكثر من تلك الشهادة للإثبات أن ما يحدث في غزة هو عبارة عن محرقة جماعية تمارس فيها إسرائيل كل حقدها وعنصريتها القومية، لكل ما هو فلسطيني في غزة وآخرها صناعة المجاعة بلا طريق للهروب، وبعد أن حولت المناطق الزراعية الشرقية بغزة إلى مناطق عسكرية وأغلقت المعابر ومنعت الغذاء لتنهش أحشاء البشر الذين تعلو صرخاتهم من ألم الجوع.
يطالبنا الأصدقاء والأهل في غزة أن نتوقف عن الكتابة عن ترف السياسة والعالم وترامب وخلع غالانت وروسيا والصين وعواصم العرب لأن كل تلك تبدو صغيرة أمام بكاء طفل حافٍ لا يجد وجبة حليب، أو امرأة لم تعد تجد الخبز الناشف وأب يبكي عجزه أمام الأولاد. أي زمن هذا وأي عالم وأي أخلاق ؟ يعتقد الأحبة في غزة أن علينا أن نكتب وأن العالم سيستجيب حين يقرأ كأنه لم يسمع عن المجاعة وحين يقرأ سطراً أو مقالاً سيستنفر ضميره وأخلاقه، ونخجل أن نقول لهم إن العالم يحكم عليكم بالإعدام تاركاً لإسرائيل حرية اختيار وسيلة التنفيذ قتلاً أو جوعاً المهم النتيجة، نحاول أن نخفي تقديرنا وهم يصدقون تلاعبنا بالكلمات لأن الغريق والخائف يتعلق بكلمة لكن الحقيقة موجعة.
أين المساعدات التي كانت تلقى من الجو ولماذا توقفت ؟ وهل مطلوب أن نقتنع أن الجميع عاجز عن أن يفرض على إسرائيل أن ت فتح معبراً ؟ ألهذه الدرجة تبدو هشاشة العالم أم أن هناك شيئاً آخر وهو التخلص من غزة وناسها وبيوتها وتاريخها وتحويلها إلى مقبرة جماعية؟ فالفلسطيني الجيد هو الفلسطيني الميت، قالها إسرائيلي ذات مذبحة. وها هي المذبحة تتجسد بالجملة بعد أن تعبت إسرائيل من القتل بالتفرقة.
غزة تجوع ويتفرج العالم الخالي من الإنسانية على موتها، أهلنا يتضورون ويموتون مكسورين جائعين نازحين مهانين لم يرحمهم لا العدو ولا الصديق ولا الشقيق، كيف سينظر كل هؤلاء بعيون المعذبين في غزة ؟ وكيف سينظر المسؤولون الفلسطينيون المغامرون في عيون الغزيين ؟ التاريخ محشو بالمآسي وشاء قدر غزة أن تكتب مأساتها الطويلة على صفحات لا تنتهي … لها الله.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية