رحل محمد الحوراني مبكراً مثل كل فدائي حالم تظل عيناه شاخصتين تحدقان في حلمه الذي لم يكتمل. رحل محمد الحوراني حزيناً أن شعبه ومنهم أقاربه درجة أولى من نفس العائلة يقتلون ويبادون في غزة ، رحل في وسط ضوضاء الموت التي تخطف الفلسطيني في كل مكان، رحل وحلمه الكبير في المسمية القرية التي تم تهجير والديه منها ما زال في حالة انتظار. هكذا الفلسطيني يموت في وسط الأوديسة وهو ينظر لموج البحر المضطرب الهائج، يموت وهو يمسك بحلمه حتى المشهد الأخير له في الحياة، لا يفارقه اليقين في أن الحلم سيغدو حقيقة لا محالة. رحل محمد الحوراني وهو يعرف أن ثمة طريقا لم يكملها وخطوات لم يسرها، لكن ثمة نهاية سيصلها شعبه.
عرفت محمد الحوراني مبكراً كأحد أسماء الحركة الوطنية خلال الانتفاضة الأولى وسمعت عنه خلال وجودي في سجن النقب وكان هناك أيضاً، ولكن أتذكر ذلك المساء من العام 2012 حيث وصلت ل رام الله من غزة لأول مرة منذ الانتفاضة الثانية كان يجلس في مقهى ريف مع بعض الإخوة. سلمت على الجميع فسألني “متذكرني؟”، فقلت له، إنني في الطريق لرام الله، مررت على صف مدرسي مهجور كان يدرس فيه عبد الله الحوراني في المسمية. فقام وتعانقنا، وبعد ذلك تواصلنا بشكل مستمر وخلال المؤتمر السابع لحركة فتح حضرنا أكثر من جلسة سوية ضمن ترتيبات بعض الإخوة وتنسيقهم المشترك. كنت دائماً أرى فيه صورة القائد الفتحاوي الذي يصر على الحفاظ على “فتح” كما هي، “فتح” التي نعرفها ونريدها أن تظل كذلك. وكان يلفت انتباهي وعيه وثقافته وقراءته.
محمد الحوراني نموذج خاص من المثقف الطليعي الثوري الذي يصوغ مواقفه وفق قناعات وطنية صرفة حتى لو كان عليه أن يعيد التفكير في موقفه الحركي، لأن التنظيم وجد من أجل فلسطين ولم يوجد لذاته، لذلك كثيراً ما عبر محمد الحوراني عن مواقف تجاوزت القناعات الحزبية والتنظيمية لصالح الموقف العام. وهو بذلك يتصرف كفتحاوي حقيقي حيث إن موقف الحركة لا يعلو الموقف الوطني العام وحيث فلسطين أهم من أي شيء وحيث تقوم “فتح” بتجاوز مصلحتها الحركية لصالح المصلحة الوطنية العامة. هكذا تعلم محمد الحوراني في أكاديمية الثورة التي ربته عليها “فتح”. ببساطة لأن مثل هذا الفهم يتأسس على وعي خالص بألا قيمة لتنظيم أو حزب تتعارض مصالحه مع مصلحة الوطن، هكذا كان محمد الحوراني في كل ما يقول ينظر من خلال تلسكوب وطني فلسطيني بحت للأشياء، ومنه يرى كل شيء وفق ما تطلبه المصلحة العامة، وهو بذلك كان ينظر أيضاً من خلال تلسكوب فتحاوي خالص، وهو بذلك كان يتصرف بفتحاوية خالصة بعيداً عن أي أهواء أو مواقف شخصية. من هنا كان محمد الحوراني يشكل بالنسبة للكثيرين في قواعد “فتح” صورة حقيقية للفتحاوي الذي يتخيلونه، الفتحاوي الذي يعني الوطني والفدائي، الفتحاوي الذي يشير إلى أفكار “فتح” الأساسية التي تعلمها حين انتمى الواحد منا لـ”فتح”.
وهو إلى جانب ذلك، يحترف الصياغة الفتحاوية الحقيقية. والصياغة الفتحاوية تعني تمكنه من مفردات اللغة التنظيمية، فحين يتحدث أبو أركان تستمع للغة “فتح”، لمفرداتها فهو ينهل من قاموسها الحركي والتنظيمي ومن تاريخها وبطولاتها. بعض الإخوة حين يتحدثون تشعر أن ثمة مسؤولاً يتحدث، وليس قائدا تنظيميا، فهم يفتقرون للغة “فتح” ولمفرداتها ولوعيها ولآليات التفكير الحركي، أو أن بعضهم يجنح للغة معقدة تأخذ المتلقي إلى خارج دوائر “فتح” ووعيها. أبو أركان كان كل ما يقوله ينضح بلغة “فتح” ومفرداتها، لذلك كان قريباً من وعي أبناء الحركة ويجدون فيما يقوله معبراً حقيقياً عنهم وعن أفكارهم ومواقفهم. ومع ذلك كان يبرع في صياغة الموقف التنظيمي وفي التعبير عنه حتى لو كان له موقف مختلف أو اجتهاد يبتعد عن المعلن من الموقف العام، كان دائما يجد ما يقوله لصالح “فتح” ويعرف كيف يعبر عنه بلغة تحافظ على “فتح”. كان هذا النموذج من المتحدثين المفوهين المثقفين الملمين بجوهر الفكرة الفتحاوية فلا يحيدون عنها، وحين يتحدثون يتركون انطباعاً جيداً عن القائد الفتحاوي، في مقابل من يشكل حديثهم إساءة لـ”فتح” وينتقص من مكانتها ومن تاريخها. كان أبو أركان دائماً إضافة لـ”فتح” ومعززاً لقوة المقولة الفتحاوية وحذقاً في الدفاع عن “فتح”، حتى في اللحظات التي ينتكس الآخرون ويتراجعون كان يقوم بالدفاع عن “فتح” بقوة الكلمة وصلابة الفكرة ووضوح التعبير.
كنت أجد فيه نموذجاً للمثقف الوطني والفدائي المخلص لفكرة الانتماء، وكان يقدم صورة مغايرة عن الصورة التي يفضل خصوم “فتح” تقديمها عن الفتحاوي غير المثقف وكأن المثقف شيء خاص باليسار مثلاً رغم أن مثقفي “فتح” يشكلون الغلبة من مثقفي شعبنا بكتابه وفنانيه ومؤسساته الأهلية الثقافية، وربما أن من يتم تصديرهم يسيئون لصورة المثقف الفتحاوي الحقيقي بضعف بنيتهم الثقافية والمعرفية وخطابيتهم الزائدة وتنفيرهم للناس ولمجتمع المثقفين والمبدعين، هؤلاء عززوا الصورة غير الصحيحة عن المثقف الفتحاوي، في المقابل، كان محمد الحوراني يقدم الصورة الحقيقية عن الفدائي وابن التنظيم المشبّع بهوية شعبه والقادر على صياغة مواقفه وتوجهاته ضمن صياغات ثقافية ومقولات عميقة.
برحيل محمد الحوراني تخسر فلسطين فدائياً من زمنها الجميل، وتخسر “فتح” احد أبرز قادتها في الأرض المحتلة وخير من مثلها في المجلس التشريعي الأول، وتخسر الحركة الوطنية قامة وطنية تربت في أزقة المخيم وحملت حلم العودة إلى المدن والقرى والضياع والنجوع معها، ودفعت في سبيل ذلك الكثير دون تردد، ونخسر، نحن أصدقاءه، نبراساً كان الحديث معه يشكل إضاءات في وعينا الوطني. رحل محمد الحوراني مبكراً ومبكراً جداً.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية