ككل الفلسطينيين، أضع يدي على قلبي عندما تقوم اسرائيل بتقسيم أي اتفاق إلى مراحل، فالمؤمن لا يلدغ من اسرائيل مرتين. وللفلسطينيين المؤمنين بقضيتهم تجربة مريرة من الخداع عندما مرحلت اسرائيل اتفاق أوسلو، أخذت ما تريد في المرحلة الأولى التي انتهت قبل ربع قرن وللآن يقف الفلسطينيون على بوابات المرحلة الثانية التي لم تبدأ بعد .. هكذا هي اسرائيل.
انتهت بالأمس، آخر عملية تبادل لهذه المرحلة من اتفاق الهدنة والتبادل، وكان يجب أن تبدأ الأطراف مفاوضات المرحلة الثانية في اليوم السادس عشر لبدء تطبيق الاتفاق أي في الثالث من شباط، وهو ما يكفي للتدليل عن النوايا الإسرائيلية التي عززتها التصريحات التصعيدية التي لم تترك متسعاً للتفسير سوى الرغبة بالعودة للحرب لاستكمال ما بدأته من تجريف للقطاع وتنفيذ مشروع التهجير الذي كان مجرد نوايا ثم بدأ الهمس به إلى أن تحول إلى مشروع مركزي معلن للحكومة الإسرائيلية بعد أن تلقى ريح إسناد قوية من دونالد ترامب.
لم تكتفِ اسرائيل بالإعلان الفاقع عن رغبتها بالعودة للحرب بل قامت بإجراء تغييرات على طبيعة الوفد الإسرائيلي، حيث تم تعيين المقرب من نتنياهو رون ديرمر وزير الشؤون الإستراتيجية رئيساً للوفد بدلاً من رئيس «الموساد» دافيد برنياع وتحييد دور رئيس «الشاباك» رونين بار ما يعني عملياً عزل المؤسسة الأمنية الداعمة لاستكمال مراحل الصفقة لصالح تيار استكمال المشروع اليميني الأكثر تناغماً مع زعيم حزب الصهيونية الدينية بتسلئيل سموتريتش.
بنيامين نتنياهو صاحب مدرسة عريقة في الخداع. ذات مرة، عندما سأله والده عما أبداه من مرونة في أحد تصريحاته بالموافقة على إقامة دولة فلسطينية تحت ضغوط الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما قال لأبيه: «كن مطمئناً، وضعت شروطاً لن يقبلها أي فلسطيني». وهذا ما سيفعله في مفاوضات المرحلة الثانية متكئاً على رفض « حماس » المتوقع للشروط التعجيزية لمحاولة استكمال مشروع التهجير الذي توفرت فرصته التاريخية التي لن تتكرر، فقد هاجم جدعون ساعر وزير خارجية اسرائيل المستشارة القضائية للحكومة غالي بهراف ميارا حين طلبت استشارتها بملف التهجير قائلاً لها: «هذا ملف سياسي وليس من اختصاصك».
فكرة مرحلة الصفقة جاءت من الوسطاء بعد أن وصلوا إلى قناعة برفض تام من قبل حكومة نتنياهو لأي صفقة تتضمن نهاية الحرب. وكانت الفكرة أن تتم تهيئة مناخات بوصول ترامب الذي أعلن نيته وقف الحرب ودعم إنهائها لكن الأمور سارت بشكل معاكس مما اندلق من ترامب من دعم لنتنياهو، فقد قال الرئيس الأميركي عندما طلب إطلاق سراح كل الأسرى دفعة واحدة، السبت الماضي»: فليتخذ نتنياهو أي قرار وأنا سأدعمه» ما يعني أنه يعطيه ضوءا أخضر مفتوحا على كل الخيارات، وهذا لا يبشر كثيراً.
الشروط التي يضعها نتنياهو سياسية تكاد تكون مستحيلة بالنسبة لـ»حماس» لأنها تعني بمجملها أنه يطلب منها استسلاما كاملا، أي أن تغادر المشهد نهائياً وأن تسلم سلاحها. ويقدم هذه الشروط بشكل مهين حتى دون حفظ لماء وجهها وهو يدرك أن الحركة الفلسطينية لا يمكن أن تقبل بها فهي تعني أن توافق على إعدام نفسها باعتبارها حركة مقاومة. فماذا يعني أن تتجرد المقاومة من سلاحها؟ لكن نتنياهو أكثر ذكاء وهنا مأزق الحركة والفلسطينيين الذين يضعهم دوماً في ثنائية مدمرة: فإما الاستسلام أو استكمال مشروع التهجير.
هذه المرة أيضاً، نتنياهو لا يريد التوصل لحل كما نهايات الحروب السابقة، والأهم أنه لا ينتظر استسلام الحركة، ففي استسلامها ينتهي مبرر الحرب والتهجير ويبدأ البحث عن عودة الحياة ل غزة وإعمارها كما حدث في ألمانيا واليابان. لكن نتنياهو رفع سقف الشروط كي ترفضها الحركة لأنه هذه المرة يريد «اقتلاع ألمانيا واليابان» لا السماح للدول العربية لتنفيذ مشروع مارشال للقطاع وهو ما تحاول السياسة العربية بلورته وعرضه على البيت الأبيض وتنفيذه وهو ما يتصادم مع الأماني والرغبات الإسرائيلية.
في دفيئة المجتمع الإسرائيلي تبرعمت فاشية حادة، حيث ظهر في ثمانينيات قرنها الماضي مائير كهانا صاحب فكرة الترانسفير، الأب الروحي لبن غفير كنبتة شيطانية وحيدة، وقبل سنوات، كان يبدو أن سموتريتش ــ بن غفير تيار هامشي في المجتمع الإسرائيلي لكن الاستطلاع الذي نشرته القناة الثالثة عشرة في الخامس من شباط يحسم أمر الانزياح الإسرائيلي لصالح تلك الفاشية التي انتقلت من الهامش لتصبح تيارا مركزيا، حيث كشفت نتيجته الصادمة أن 72% من الإسرائيليين يؤيدون خطة ترامب لتهجير الفلسطينيين من قطاع غزة.
ولكن هل يمكن أن يتوقف نتنياهو عند المرحلة الأولى ويترك ما تبقى من العسكريين؟ تلك معضلة كبيرة ستظهره بأنه تخلى عن جنوده وسط المعركة وهذه جريمة كبيرة لا تحتمل في اسرائيل خاصة بعد استعادتها للمدنيين ولحظات الفرح التي عاشتها بتلك العودة خلال الشهر الماضي وهذا ما دعاه للبحث عن مخارج تتمثل بتمديد المرحلة الأولى لاستعادة الجنود الأحياء على الأقل ومن ثم تخريب المرحلة الثانية، يكون قد نجح بتجريد «حماس» من الورقة الذهبية والتفرغ لمشروعه أو مشروع ترامب الذي يرفض عودة السلطة كخط أحمر وضعه للنقاش ليستمر بملاحقة وتجريف وقتل الحياة بغزة ومنها ربما أو على الأغلب يرفض الخطة المصرية، وهذا ما يتطلب انتباهة أكبر من قبل «حماس» والعرب للعبة نتنياهو المتوحشة والماكرة.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية