قديماً قالوا: «الشعوب على دين ملوكها»، ويبدو أن المثل ذاته ينطبق على الولايات المتحدة، فالرؤساء على شاكلة دولهم، يمثلون عناوينها، إن كانت شابة يكونون شباباً، وإن كانت أخلاقية يكونون كذلك، وإن كانت عدوانية يكون رؤساؤها عدوانيين، هكذا يدل فوز الرؤساء المنتخبين خاصة، على طبيعة دولهم، ولعل هذا الوصف ينطبق تماماً على الولايات المتحدة الأميركية، وهي دولة تتبع النظام الرئاسي، وهي منذ 3 مناسبات انتخابية، تواصل انتخاب مرشحين بلغوا الثمانين من العمر، أو على مشارفها، بما يعطي انطباعاً، بأن أميركا نفسها باتت دولة عجوزاً، بعد قرنين ونصف القرن من الزمان، على تأسيس جمهوريتها الفدرالية، وأنها رغم كونها ما زالت أكبر اقتصاد في الدنيا، وما زالت الدولة التي تتفوق في علوم الفضاء، وتكنولوجيا المعلومات، إلا أن تقدماً «سوسيولوجياً» مرافقاً لا يتحقق، خاصة على صعيد التقدم الإنساني، فما زالت أميركا عاجزة عن تجاوز حدود إرث الاستعمار والتفوق العرقي والقومي، كذلك فرض الإرادة بالقوة، وكل هذه الأمور ما زالت منتشرة في نفوس غالبية الأميركيين.
لم تقر أميركا بعد بأن العالم الذي لم يتحول بمجمله إلى عالم اشتراكي تسوده العدالة الاجتماعية، وذلك بعد هزيمة النظام الشيوعي في الحرب الباردة، لكنه – أي العالم – صار أكثر وعياً بحقوق الشعوب والإنسان على قاعدة من العدالة والمساواة، وأنه لم يعد هناك أحد يطيق العودة للمظاهر الاستعمارية وفرض السيطرة على الشعوب بالقوة، كما أنه لم يعد يطيق شن الحروب، وأن العالم بات يقبل فقط بالتنافس الاقتصادي، بما يتضمنه من تفوق على الذات المنتجة من إنتاج معرفي وتقني، وأن شعوب العالم تحترم من يجتهد، ومن يتعامل باحترام مع الشعوب والدول الأخرى على قاعدة الندية، كذلك بات العالم أكثر انفتاحاً على بعضه البعض، ويكره الإبقاء على الحواجز والفواصل الحدودية والحديدية بين الدول، ولعل انفتاح الشعوب على بعضها في إطار الفضاء الأزرق، دون رقابة من الحكومات، قد عزز ثقافة الانفتاح الإنساني هذه.
وأميركا العجوز، صارت مثل القارة العجوز، لكن مع فارق، هو أن أوروبا تقع على حدود التماس الجغرافي مع آسيا، وإلى حد ما مع إفريقيا، حيث يفصلها عنها مضيق جبل طارق الضيق فقط، وأن أوروبا لم تغلق يوماً حدودها في وجه جيرانها، بل وجدت في هجرتهم إليها بالذات «تجديداً» لشيخوختها، لدرجة أننا بتنا نرى مظاهر التنوع القومي والعرقي في أوروبا على كل المستويات، إن كان بلون البشرة أو بتعدد اللغات والثقافات، ولعله أمر ذو مغزى أن يصل إلى منصب رئيس الحكومة البريطانية السابق رجل من أصل آسيوي، فيما نظرة واحدة لمنتخب كرة القدم الفرنسي أو البلجيكي تؤكد هذه الظاهرة، أما أميركا ورغم أن لها فقط حدوداً برية مع دولتين، كندا في الشمال والمكسيك في الجنوب، إلا أن إصرار دونالد ترامب وهو يترشح للرئاسة مرتين، على أن يجعل من مدخل محاربة الهجرة، وبلغة عنصرية واضحة، طريقه إلى البيت الأبيض، بما يعني أن الداخل الأميركي بغالبيته ما زال منكفئاً، وربما كان لذلك علاقة بانطوائية أميركية رافقت الدولة التي أقيمت على أساس التطهير العرقي، وبسواعد قراصنة البحار، وظلت أسس التأسيس هذه ترافقها حتى الحرب العالمية الأولى.
أما جارة أميركا الشمالية، أي كندا فهي أكبر منها مساحة وأقل منها عدداً في السكان، وهي أكثر منها حاجة للمهاجرين، لذا فلا حاجة أميركية لإغلاق الحدود أمامها، لكن أميركا تفعل ذلك في وجه المهاجرين من المكسيك، وهم بالطبع أناس جائعون، يبحثون عن الطعام، وليسوا لصوصاً ولا قطاع طرق ولا إرهابيين كما يصفهم رئيس الأغلبية الأميركية، لكن أميركا تعودت منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية على نهب الشعوب، وليس على منحها مقابل عملها وجهدها، والمهاجرون المكسيكيون وغيرهم، يأكلون في أميركا من عرق جبينهم، ولا يتسولون، لكن من الواضح أن «عودة» ترامب تعزز النوازع العنصرية البيضاء داخل أميركا، وتقطع الطريق على ما بدا أنه إرهاصات تغير داخلي، رافقت الشراكة الأميركية مع إسرائيل خلال حرب إبادتها ل غزة طوال عام مضى.
وأميركا، خاصة منذ ثلاثة عقود، أي منذ انهيار جدار برلين، وغياب المبرر الذي كانت تقدمه لاحتواء دول الغرب الأوروبي تحت جناحها، ولتبرير نشر قواعدها العسكرية، وإقدامها على التخطيط وتنفيذ الانقلابات العسكرية العديدة في دول أميركا اللاتينية، وكذلك احتلال عدد من الدول بقوتها العسكرية، ومثال ذلك صربيا والعراق وأفغانستان، وليبيا وسورية، ثم دفاعها السياسي عن إسرائيل في الأمم المتحدة، ثم تورطها العسكري المباشر معها في حرب الإبادة، كل ذلك وضع أميركا في خانة الدولة التي لا تستحق أخلاقياً على الأقل قيادة العالم، وهي تقف دائماً ضد إرادة أغلبية الدول، خاصة عند التصويت في الجمعية العامة للأمم المتحدة، وربما لهذا السبب حاولت أميركا وبمجرد انتهاء الحرب الباردة أن «تخترع» عدواً، لتبقي على صناعة السلاح، وهي صناعة متحكمة في النظام السياسي الأميركي، وما زلنا نتذكر دوائر التخطيط الاستراتيجي الأميركية خلال عقدي الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي، وهي تبحث كثيراً في من يكون عدوها خلال فترة ما بعد الحرب الباردة، حتى وجدت ضالتها في العالم الإسلامي، وكان من بين العوالم الكونية التي تم تحديدها كخصوم لنظام سيطرتها على العالم، وبعد أن حدث ما حدث على هذا الصعيد خلال عقدين ونصف العقد، من حرب في أفغانستان، وفي الشرق الأوسط، كانت أميركا فيها الطرف المباشر، بكل ما تمتلكه من جبروت القوة العسكرية، التي لا مبرر لها في مواجهة جماعات مسلحة بأسلحة بسيطة، فإن أميركا واصلت الجلوس على المقعد المقابل لإرادة أغلبية البشر، وبعد وقت باتت تضيق ذرعاً بالتنافس الاقتصادي السلمي، وحين رأت التقدم الصيني الاقتصادي، بدأت تبث الهلع والتوتر في كل أنحاء العالم، وحين رأت روسيا تتعافى من وباء التبعية لها، هرعت إلى إشعال فتيل الحرب على حدودها مع أوكرانيا، وبعد أن نجحت أميركا عبر عقود طويلة في امتصاص الغضب العالمي وفي قطع الطريق على أي تغيير داخلي، باستخدام نظام التداول الخادع في السلطة بين حزبين لا ثالث لهما، ولا يتغيران، أحدهما فج، قومي، عنصري محافظ، والآخر مراوغ ومخادع، وكلاهما محكوم بمن يملك المال، ورغم أن لعبة الانتخابات كانت تقليدياً محكومة بالتنافس بين صناعتي السلاح والنفط، فإن عنصراً ثالثاً متمثلاً بصناعة التكنولوجيا الحديثة، والمليارديرات الأفراد الجدد، قد بدأ بالتأثير على سياق وحتى نتيجة الانتخابات الأميركية، إلى درجة الحسم، وتحديد وجهة النظام السياسي برمته، بشقيه التنفيذي والتشريعي، انتخاب الرئيس والكونغرس.
وشهدنا ظهور كل من المليارديرين آيلون ماسك وهو ثري «مثلث الجنسية»، جنوب أفريقي وكندي وأميركي، ولا يعتبره ترامب بالطبع «متجنساً» أو متطفلاً على أميركا، وتيموثي ميلون كممولين للمرشح الجمهوري، وهو ما هو عليه من «تهريج» ومن عداء للمهاجرين، ومن نزوع عنصري، بل ومن وقاحة سياسية، لم يتردد في وصف حتى خصومه السياسيين الأميركيين بالكلمات النابية، وكان آخرها أن يلمح إلى وصف نانسي بيلوسي بالعاهرة، مع أنه هو المعروف بعلاقاته الهابطة مع نساء الإباحية اللواتي يتابعن رفع القضايا الجنائية ضده، وصناعة المصارعة الترفيهية، والذي ظهر كرجل يضيق ذرعاً بالديمقراطية الأميركية نفسها حين تكون سبباً في سقوطه، ففعل ما فعل بالكابيتول نفسه، العام 2020.
بتقديرنا ستظل أميركا أسيرة إرثها البعيد والقريب، البعيد بجذره كدولة قامت على أساس التطهير واستعباد السود، ثم الوسيط متمثلاً بفرض السيطرة الاستعمارية والقريب متمثلاً بفرض هيمنتها على العالم بالقوة، وهي كما حال شبيهتها الإقليمية إسرائيل، لن تتغير من داخلها، بل سيفرض عليها التغيير الخارجي تغيراً داخلياً، وذلك حين يسقط نظامها العالمي أحادي القطب، حينها سيكون أمامها أحد خيارين: إما أن تنكفئ مجدداً داخل حدودها وراء المحيطات، أو أن تغير تركيبتها الداخلية للتوافق مع العالم المتعدد والمتجدد.
وهكذا قد يكون وجود ترامب عنواناً لأميركا كما هو حال نتنياهو عنواناً لإسرائيل، إما كآخر عناوين نزعة التفوق القومي، وفرض الإرادة على الآخرين بالقوة، أو نموذجاً باقياً، يأخذ معه دولته إلى حيث العزلة الدولية، وترامب يتوعد ملايين المهاجرين بالترحيل، حيث تشير التقديرات إلى نحو 20 مليون مكسيكي، ويتوافق مع إسرائيل /نتنياهو بخطتها في ترحيل ملايين الفلسطينيين من وطنهم، وكان أحد المقربين من ترامب، قد دعا في تجمع انتخابي له للتخلي عن فكرة حل الدولتين، وترحيل الفلسطينيين إلى الدول العربية، فيما كان ترامب نفسه قبل أشهر قد أشار «بعين العطف» إلى ضيق المساحة الجغرافية لإسرائيل، بما يؤكد أنه جاهز لمساعدتها على التوسع، على حساب جيرانها: الفلسطينيين واللبنانيين والسوريين، الأردنيين والمصريين.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية