يحتاج مصطلح النظام العربي إلى وضعه بين مزدوجين لأسباب كثيرة، لعلّ من أهمّها أنّ وجود هذا النظام من زاوية الهيكل، ومن زاوية الوجود المؤسّسي لم يعد يعبّر عن دور فاعل، أو مكانة يُحسَب حسابها في واقع الأحداث والتطوّرات إلّا في حالات التنكّر لوظيفته، والارتداد على أهدافه، وهو لا يُفعَّل إلّا في مثل هذه الحالات، واستجابةً للمصالح الخارجية، وليس ولا لمرةٍ واحدة انطلاقاً من المصالح الخاصة المفترضة لهذا النظام.
النظام العربي الذي نشأ في أربعينيات القرن الماضي من الناحية الرسمية انهار بعد النكبة 1948، وأُعيدت هيكلته ومأسسته بعد هذه النكبة إثر ضياع فلسطين، وما تبع من ردود أفعال تاريخية عليها انتهت بسلسلة من الثورات والانقلابات، وبسلاسل أخرى من الثورات والاضطرابات التي عصفت بالإقليم العربي كلّه، وكان من نتيجتها بعد سقوط سياسة الأحلاف المباشرة أن انقسم هذا النظام على نفسه، وجرى استقطابه من المحيط الدولي على قاعدة الانقسامات الدولية التي ميّزت عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية، والاصطفافات الدولية والإقليمية التي لَحِقَت وأُلحِقَت بهذا النظام.
مالت كفّة «الناصرية»، وكفّة البُعد القومي في هذا النظام للفترة الممتدة بين تأسيس النظام وبين نكسة حزيران 1967، واستطاعت «الناصرية» و»القوى القومية» أن تفرض سطوتها على هذا النظام حتى منتصف السبعينيات حين حدثت سلسلة جديدة من التراجعات في هذا النظام بدأت من الارتداد «الساداتي»، وتحالفه الداخلي مع «القوى اليمينية المحافظة» ضد الحركة الوطنية المصرية النشطة في ذلك الوقت، وتم التراجع الكامل عن أهداف الثورة الناصرية، وتتابع المشهد الناصري والقومي في التراجع إلى أن تمّ إعادة سيطرة «الخليج» على مقدّرات الأمّة بعد الثورة التي أحدثتها الأسعار الانفجارية للنفط، وبعد أن بدأت تتشكّل «الفوائض المالية» لدى أكبر مركز مالي جديد في عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية من خارج المراكز الإمبريالية التقليدية بما فيها المراكز «العريقة» في نيويورك ولندن وباريس وبون وطوكيو، وغيرها من مراكز المال في العالم.
وبسبب ضعف الهياكل الوطنية، وإضعافها المتعمّد عن استبعاد الفوائض، وبسبب منظومة التبعية الكاملة من قبل المراكز المستحدثة على بحيرات النفط العربية جرت وللمرّة الأولى في تاريخ البشرية عملية تصدير للرأسمال من الأطراف إلى المركز «الغربي» في اتجاه معاكس للمسار التاريخي الذي عرفناه عن اتجاه تصدير رأس المال من المراكز إلى الأطراف.
وعرفنا في هذه الحقبة بالذات ظاهرة «البترو دولار»، واستخدمت بعض فوائض راس المال في «تحديث» مشوّه لبعض اقتصاديات دول الخليج، وتم تصدير فوائض أخرى إلى الاقتصاديات العربية المحيطة بالمركز الخليجي، وتحوّلت الرساميل المصدّرة من الخليج العربي إلى رساميل سياسية وإلى إعادة بناء وهيكلة الواقع الاقتصادي والاجتماعي فيهما وفق «التسليم» المسبق بقيادة «الخليج» للمؤسّسات الجامعة في النظام العربي، وتعزّز هذا الاتجاه بعد حرب أكتوبر 1973.
في هذا الإطار تمرّد العراق، وكذلك ليبيا، وإلى حدّ ما الجزائر على عملية «الإلحاق» لكن الفشل ظهر جليّاً في غزو العراق للكويت، وسقطت هذه الدول نفسها بسبب هذا «التمرّد» بمشاركة مباشرة من «النظام العربي»، واستكملت المحاولة من خلال ركوب موجة «الربيع العربي»، ولولا دخول روسيا وإيران على خط الدفاع عن النظام السوري، ودخول الجيش المصري على خط الدفاع عن الدولة المصرية لأمكن لـ»الغرب» الإجهاز على أيّ طابع قومي، أو وطني أو تحرّري في الواقع العربي كلّه، ولتمّ الإجهاز على مشروع الدولة الوطنية في الإقليم.
أقصد أنّ النظام العربي قد شهد على مدى خمسة أو ستة عقود «تطوّرات» كبيرة، ومفصلية أوصلته إلى ما وصل إليه اليوم.
واليوم هو نظام عاجز ومشلول ومسلوب الإرادة، وفاقد للأهلية والشرعية، وجاء «طوفان الأقصى» ليثبت أن هذا النظام لم يعد يملك أكثر من «المطالبة» من «المجتمع الدولي» بالتدخُّلّ! لوقف حرب الإبادة ضدّ الشعب الفلسطيني، وضد الشعب اللبناني، أيضاً.
هناك عشرات المفاصل والتفاصيل في تتبّع مسار هذا النظام، ومن المستحيل الإحاطة بها، ولا حتى مجرّد الإشارة إليها في مساحة مقال سياسي، لكن الأمر الأكيد أنّ التعرف على واقع هذا النظام اليوم هو مسألة هامّة وحيوية لمعرفة المدى الذي وصل إليه، والخطر الذي بات يمثّله على نفسه، وعلى شعوب المنطقة وأوطانها.
ليس موضوعنا اليوم هو كيف، ومتى وصل النظام العربي إلى ما وصل إليه، وإنّما ما يجب أن يهمّنا هو معرفة درجة المخاطرة التي يأخذها هذا النظام على نفسه، انطلاقاً من مراهنته الانتحارية على «الانتصار الأميركي» وعلى دور دولة الاحتلال في الإقليم، وإلى «الخوف» العربي من القدرة على التصدّي للهياج الصهيوني، والاصطفاف «الغربي» وراء هذا الهياج، وإلى حساباته المغلوطة لردود وأفعال الشعوب لاحقاً.
وبكلمات أخرى فإنّ النظام العربي لا يقدّر أنّ هزيمة الشعب الفلسطيني هي ضرب من الخيال، وهي من سابع المستحيلات، ليس من حيث المبدأ فقط، وإنّما في واقع ما يدور من حروب الآن، وفي إطار حرب الإبادة والتصفية التي تقودها الولايات المتحدة، والتي هي الحليف الأوّل للنظام العربي، والدّاعم الحقيقي والمشارك الفاعل خلف دولة الاحتلال في هذه الحرب بالذات.
والسبب بسيط وواضح، وسنرى أنّ النظام العربي لا يدرك هذه الحقيقة بالذات، والتي هي بكلّ بساطة، أيضاً، استحالة قدرة دولة الاحتلال على الانتصار.
النظام العربي لا يريد أن يصدّق بأنّ دولة الاحتلال لم يعد أمامها سوى معارك الهروب إلى الأمام، والتصعيد الجنوني في هذا الهروب هو إدراكها أن التوقّف عن الحرب ليس سوى الوجه الآخر للعجز والهزيمة، والعجز هو مرحلة جديدة من التفكّك السياسي والاجتماعي، وهو مرحلة أوّلية في مسار الهشاشة الاقتصادية المتأتّية عن «فقد» الجذب الاستثماري، واستحالة إحداث، وإعادة إحداث تراكم رأسمالي يعيد إنتاج مرحلة التماسك السياسي والاجتماعي، إضافةً إلى فقد النموذج «الديمقراطي» وفقد نموذج جذب يهود العالم، وفقد المرويّات والسرديّات الخرافية لكلّ أصولها الثابتة، وكلّ أهمية لها في الوعي العالمي، وانكشاف حالة الزيف والتضليل والادّعاءات التي سئمتها شعوب الأرض وقواها الحيّة.
والنظام العربي لا يريد أن يصدّق أنّ دولة الاحتلال قد فقدت أن تكون دولة آمنة إلى الأبد، لأنّ هناك أكثر من 14 مليون فلسطيني لا يمكن أن يقبلوا بالتعايش مع هذه الدولة قبل أن تتخلّى بالكامل عن كلّ ما تقوله، وما تفعله، وما تخطّط له، وقبل أن تدفع ثمن ما اقترفت بحق الشعب الفلسطيني، وبحق شعوب أمّتنا كلّها، من جرائم، والتهديد الذي تمثّله على شعبنا الأردني خاصةً، واللبناني والسوري، وكلّ شعوب الأمّة من المحيط إلى الخليج.
وعندما يصرّح بتسلئيل سموتريتش، وبعده مباشرة بنيامين نتنياهو أنّ المعركة القادمة هي معركة «ضمّ» الضفة الغربية، والاستيلاء عليها، أو على الجزء الأكبر منها فهذا يعني بكلّ بساطة أن دولة الاحتلال أرادت أن تصفع هذا النظام العربي.
هذه هي الحقيقة، من دون «رتوش»، ومن دون مواربة، ومن دون كلام منمّق عن التضامن العربي الرسمي مع فلسطين ولبنان، ومع العروبة، ومع الإسلام في واقع منظمة التعاون الإسلامي، كما هو في واقع الجامعة العربية.
المراهنة الانتحارية عادةً تأتي إمّا عن طريق الإقدام على الأخطار، وإمّا عن طريق الإحجام عن فعل أيّ شيءٍ يعتدّ به لدرء الأخطار، والنظام العربي على مدار أكثر من 405 أيّام لم يفعل سوى أن يقف على حافّة الخطر دون أن يُقدِم على أيّ شيءٍ، وأصرّ على الإحجام عن كلّ شيء، ولهذا فهو يعيش الآن في أخطر منطقة من هذا الخطر.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية