مر الصحافيون في قطاع غزة بواحدة من أصعب التجارب العملية التي يمكن أن يمر بها صحافي في العقد الماضي. معاناة التهجير والتهديد والإصابة والاعتقال وصولا إلى القتل، ظروف استثنائية أثرت على ما لا يقل عن ألف صحافي فلسطيني يعملون في قطاع غزة مسجلين في نقابة الصحافيين، إلى جانب عدد من النشطاء والصحافيين والمؤثرين على وسائل التواصل الاجتماعي.
قتلت إسرائيل نحو مائتي صحافي بعضهم مع عائلاتهم خلال هجماتها المتكررة على القطاع منذ السابع من أكتوبر عام ٢٠٢٣، كما فاق عدد المصابين من الصحافيين وفق تقديرات السلطات المحلية ال ٣٠٠ جريح ، بعضهم سترافقه آثار الإصابة مدى الحياة، كما اعتقلت إسرائيل نحو ثلاثين صحافيا خلال عمليتها البرية في القطاع ، بعضهم ما زال في السجن و آخرون لا يعرف مصيرهم .
برزت خلال الحرب عديد الصعوبات التي لم يسبق أن تعرض لها الصحفيون في قطاع غزة من قبل بهذا الحجم والشكل، بدأت القصة بقصف إسرائيلي لمعظم الأبراج التي تضم مكاتبهم الصحافية وسط مدينة غزة، مرورا بانقطاع التيار الكهربائي والانترنت، ثم النزوح قسرا من شمالي القطاع إلى جنوبه، وصولا ً إلى استهداف البيوت والمشافي التي كانت وجهة معظم الصحفيين بحثا ًعن المعلومة والأمان في آن واحد. حيث ان هناك الكثير من المخاطر الجسدية والنفسية واجهها هؤلاء الصحافيون بشكل مباشر.
تداعيات نفسية كبيرة
يعيش الصحافيون في قطاع غزة ظروفا نفسية صعبة، بالرغم من محاولاتهم الدائمة إلى القيام بمهامهم المهنية على أكمل وجه. يقول هاني أبو رزق وهو صحافي فلسطيني حر، تعاون مع عدد من وسائل الإعلام ، فضلا عن تغطية الحرب على منصات التواصل الاجتماعي، إن التداعيات النفسية التي تركتها هذه الحرب أثرت بشكل كبير على مواصلة عمله بالشكل المطلوب ، نتيجة الفقد والخوف والقلق والتوتر، مشيرا ً إلى أنه لم يتخيل العمل في مثل هذه الظروف .
وبالمقارنة مع عمله الصحافي في جولات تصعيد سابقة يقول أبو رزق إن هذه الحرب كانت الأشرس والأعنف، حيث لم يفرق الاحتلال بين صحافي وناشط ومؤثر، فالجميع كان مستهدفا، قتلت إسرائيل أكثر من مائتي صحافي ، فيما كانت رسالة تهديد واضحة للصحافي الذي كان ينقل الصوت والصورة للعالم، خصوصا مع منع إسرائيل دخول الصحافيين من الخارج إلى القطاع.
تؤكد المراسلة الصحافية دعاء روقة أنها حاولت جاهدة الفصل بين الظروف النفسية الصعبة التي مرت بها وبين عملها ، من أجل مواصلة رسالتها الإعلامية . وتقول : ” كنت في مرات كثيرة أقف أمام الكاميرا لنقل المشاهد وأنا منهارة داخليا ونفسيا، لكنني لم أظهر ذلك، كان يحدث ذلك أيضا عند عملي في الميدان، لكنني كنت حازمة في هذا الأمر، أتوقف لبعض الوقت وأتمالك نفسي. ثم أعود للعمل ” .
اضطرت دعاء للنزوح وحدها من دون عائلتها من مدينة غزة إلى جنوبي القطاع، بعد التهديدات الإسرائيلية، والعمليات الواسعة التي شنتها إسرائيل في مناطق مدينة غزة وجباليا وبيت لاهيا وبيت حانون.
تقول دعاء، وهي واحدة من عشرات الصحافيات اللواتي عشن ظروفا معقدة خلال الحرب، إنها اضطرت للعيش في خيمة صغيرة تفتقر للخصوصية، وواجهت مشكلات الانترنت والكهرباء وعدم وجود مواصلات عامة ووسائل نقل، ما عرض حياتها في كثير من المرات للخطر.
تعرض الصحافيون العاملون في الميدان لمشاهد قاسية بداية من حجم الدمار الكبير وعدد الضحايا الذي فاق الستين ألف، وعدد المصابين الذين تجاوز عددهم المائة ألف، مما يصعب الانفصال العاطفي عن القصص التي ينقلها صحافيون يعملون في مجتمعاتهم.
وفي هذا السياق تقول الصحافية ياسمين الفيومي إن مشاهد قتل الأطفال الخدج جراء القصف الإسرائيلي لا تغيب عن ذهنها، وقد اتخذت خلال الحرب من مشفى العودة الصحي غير الحكومي وسط قطاع غزة نقطة لعملها. ولا تخفي الفيومي تأثير هذه الظروف على جودة عملها وطبيعة الرسالة التي يقدمها الصحافي بسبب الإجهاد وفقدان التركيز لملاحقة القصص، مثل قصة الصحافيين الذين استشهدوا قريبا من مكان إقامتها المؤقت في مشفى العودة الصح ، حيث استشهد خمسة صحافيين في مركبة، وتضيف إن لكل واحد من هؤلاء الصحافيين قصة وحكاية وطموح .
يتقاسم المصور الصحافي فراس العجرمي مع زملائه قضية الانخراط العاطفي للصحافي مع الأحداث ، خاصة حينما يكون من بين المصابين أقاربه أو أصدقائه، يقول إن ذلك لا يعني بالضرورة أن تصبح التغطية غير دقيقة ، لكنه مر بمواقف دفعته لتقديم الخدمة الإنسانية على العمل الصحفي، حينما كان مصورا متطوعا يرافق فرق الإسعاف والطوارئ شمالي القطاع . تبين أن فراس مصاب بمرض السرطان ، بعد فترة وجيزة من خروجه من القطاع، من بين عدد قليل من الصحافيين الذين استطاعوا الخروج لأسباب متعددة، أبرزها النجاة من الموت، بعد اشتداد الهجمات الإسرائيلية .
يخضع العجرمي للعلاج من المرض، ويقول إن الظروف النفسية التي عاشها، إلى جانب الوضع الصحي والبيئي المتدهور في القطاع هي السبب في إصابته بهذا المرض الخبيث .
نقص في الاعداد
أجمع الصحفيون الأربعة على أن التدريبات المتخصصة في الصحة النفسية قبل الحرب كانت محدودة جدا . في الوقت الذي حصلت فيه دعاء وهاني على تدريبات قليلة في مؤسسات محلية لم يحصل العجرمي على تدريبات متخصصة تتعلق بالمرونة النفسية والعمل في مناطق النزاع .
يشعر الصحافيون في قطاع غزة بالعزلة والضغط المهني، وكثير منهم بدت عليهم أعراض الاحتراق المهني، ولا يترددون في الكتابة عن ذلك على جدران حساباتهم على مواقع التواصل الاجتماعي .
يقول هاني أبو رزق إن الدورات التي حصل عليها لا تعطي الجانب الذي يحتاجه الصحافي ، وأن ما مر عليه في هذه الحرب من جهة الترهيب النفسي الذي مارسه الاحتلال وعوامل الخوف التي عاشها كإنسان قلق على عائلته ونفسه ، تحتاج إلى وقت طويل حتى يتعافى منها . “لحسن حظي أنني حصلت على تدريب عن بعد على أدوات المرونة النفسية للصحفيين قبل الحرب بأسابيع، لكن وبعد أقل من شهرين على بداية الحرب، كتبت تغريدة اعلنت فيها أنني استنفذت كل الأدوات التي تعلمتها، حيث لم يكن عندي وقت ولا مكان للتنفس الصحيح، ولا التأمل، ولا وقت للتخطيط للتعامل مع المواقف الصعبة المتتالية ، خصوصا مع تغطية مفتوحة على مدار ٢٤ ساعة للأحداث التي لا تتوقف. لكن في ذات الوقت قررت اعتماد منهجية واضحة وشاركتها مع زملائي تعتمد على أنسنة القصص لا شخصنتها ، حيث مر جميعنا بظروف صعبة قاسية، من هدم منازل، وفقد أقارب، ونزوح قسري، وغيرها”.
يجمع الصحافيون الأربعة على غياب اهتمام المؤسسات الصحافية المحلية بالدعم النفسي للصحافيين في الميدان، يؤكدون أهمية الحصول على تدريبات متخصصة في هذا الجانب مثل الجلسات الاستشارية عن بعد، أو المشاركة لاحقا في تدريبات متخصصة خارج القطاع .
يعتمد كثير من الصحافيين الذين ما زالوا في قطاع غزة على الوعي الذاتي كمفتاح للموضوعية، وهناك اعتقاد سائد من خلال التجربة أن هذه الاهتمام بالناحية النفسية للصحافيين سينعكس بالإيجاب ليس على الصحافي نفسه، بل على مؤسسته، وحتى على الرواية التي يعمل على تعزيزها بمزيد من الحقائق التي تحتاج إلى تركيز عالي .
تم انتاج هذا التقرير بدعم من الاتحاد الأوروبي ضمن زمالة تأثير النزاعات والحروب على تغطية الصحافة والإعلام ، وهذا المحتوى لا يعكس بالضرورة وجهة نظر الاتحاد الأوروبي.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية