ثلاث ملاحظات واجبة بخصوص التهدئة التي صارت أكثر صعوبة من الحرب ذاتها.
الأولى: واضح أن جهود ترامب وتعهداته بإنهاء الحرب لا تشمل غزة ، فهذه الجهود تفصل بين ملف الحرب في غزة وملفها في لبنان. كان ترامب قطع عهداً لناخبيه من الأميركيين من أصول لبنانية بإنهاء الحرب في لبنان ولم يشر إلى الحرب على غزة. حتى تعهداته لمسلمي أميركا بخصوص إنهاء الحرب كانت تعني الحرب في لبنان، وبالتالي فإن إنهاءها في لبنان سيعني أن الرئيس المنتخب أوفى بوعده ونجح في وقف سفك الدماء في جزء من الحرب الدائرة. بالنسبة لترامب، فإن النقاش كله سيتركز على لبنان خاصة في ظل ملازمة صهره اللبناني له، دون أن يعني هذا عدم الالتفات لغزة وإعادة صياغة الموقف للوم الطرف الفلسطيني – وفي هذه الحالة ” حماس ” – على عدم الاستجابة للمطالب بإنهاء الحرب، خاصة مع تعذر وتعثر إطلاق سراح الأسرى الإسرائيليين في غزة. وبالنسبة لترامب فلا شيء يعود للوراء؛ إذ إن الموقف سيكون وجوب إطلاق سراح كل الإسرائيليين الموجودين في غزة مقابل وقف الحرب. لننتبه، وقف الحرب وليس انسحاب الجيش الإسرائيلي من غزة، وهذا يعني المصادقة على كل ما قامت به إسرائيل في غزة وتثبيت مواقعها الجديدة في قلب، كما على تخوم، قطاع غزة.
بالنسبة للطرف اللبناني في النقاش، فإن الإصرار على ربط التهدئة في لبنان بتهدئة في غزة ستتم إعادة صياغته عبر تعهد يقدمه الوسيط بمواصلة العمل مع الأطراف من أجل الوصول إلى تهدئة في غزة. هذا سيتم تقديمه على أنه انتصار؛ لأنه فرض موضوع التهدئة في غزة على الأطراف الوسيطة، ووضع فكرة إنهاء الحرب في غزة إلى جوار إنهائها في لبنان؟ وبذلك يستطيع المتفرج أن يصفق على الربط الموجود. من غير المؤكد أيضاً أن ترامب قد ينجح في كل ذلك، كما من غير المؤكد إذا ما كان نتنياهو سيقدم مثل هذه الهدايا له من دون مقابل، أو حتى سينجز كل ذلك قبل أن يجلس الرجل في مكتبه البيضاوي، فنتنياهو أيضاً بحاجة لثمن وهذا الثمن لا بد أن يكون مباشرة من ترامب الذي لا يمكن لنتنياهو أن يخفي قلقه من مستقبل العلاقة معه.
الثانية: أيضاً من الواضح أن ثمة مشكلة في آلية اتخاذ القرار في “حماس”، خاصة بعد استشهاد رئيس الحركة يحيى السنوار وتشكيل لجنة خماسية لإدارة الحركة. لاحظوا أن الحوار مع “فتح” بشأن لجنة الإسناد المجتمعي لم ينجح بشكل يمكن انتظار نتائج إيجابية منه. كما أن وفد “حماس” لمحادثات التهدئة يتم تقديمه من جميع الأطراف بوصفه “لا يتجاوب”. تذكروا الأخبار الأخيرة حول الضغط القطري على المكتب السياسي في الدوحة، وهي ليست إلا جزءاً من إعطاء هذا الانطباع. ويمكن رد هذين الأمرين إلى أن “حماس الخارج” ليست صاحبة الكلمة العليا في هذين الملفين، إذ إن غزة صاحبة القرار. وهذا الأمر بات أكثر تعقيداً بعد استشهاد السنوار، الذي رغم صعوبة التواصل معه إلا أنه كان صاحب الكلمة الأساسية في الربط والحل، أما الآن فيصعب تخيل آلية اتخاذ القرار في قيادة غزة، ومدى تواصل قيادة الحركة في الخارج مع قيادة غزة. في نهاية المطاف الأسرى الإسرائيليون موجودون لدى المقاتلين في غزة، كذلك موضوع إدارة غزة ليس بيد الجالس في الدوحة، بل بيد من يملك قوة السلاح في غزة. مرة أخرى يبدو أن ثمة أزمة قيادة في “حماس” تعكس نفسها على مسار التهدئة كما على مسار الحوار الوطني، وهي أزمة ستتواصل لفترة إلى حين إيجاد حلول كفيلة بخلق تواصل يساعد على تقديم مواقف الحركة.
الثالثة: يرتبط بهذا موقف “فتح” وموقف الكل الوطني. هناك افتراض ما زال يسود المنطق الوطني منذ أكثر من 400 يوم بأن أمر التهدئة بيد “حماس”، وهو ملك حصري لها، وهناك عوامل وأسباب عديدة وراء هذا الافتراض، أولها أن “حماس” صاحبة فكرة “الطوفان”، وثانيها أن أغلب الأسرى الإسرائيليين بيد مقاتلي “حماس” وحتى هؤلاء الذين بأيدي مقاتلين من تنظيمات أخرى، فإن “حماس” صاحبة الرأي النهائي بخصوصهم. وفيما يمكن تقبل هذا المنطق لو أن الأمر يدور حول معركة أو عملية محدودة، ولكن حين يصبح مصير الشعب الفلسطيني في غزة مهدداً ويصير وجوده عرضة للزوال، فإن الموقف الوطني العام لا بد أن يتكيف مع هذه التحولات، ولا بد من مواجهةٍ حقيقية ونقاشٍ وطني جدّي مع “حماس” حول ذلك. فالأمر لم يعد يحتمل المزيد من الخسارات، والخطاب المنفعل لا يفيد.. لقد تم تقريباً إفراغ محافظة شمال قطاع غزة من السكان، وتم ابتلاع أكثر من نصف مساحة قطاع غزة ضمن خرائط عسكرية جديدة، ولم يعد الأمر مجرد عملية بطولية أو قصف موقع أو إيقاع مجموعة جنود في كمين، فمستقبل قطاع غزة كله بات على المحك والوجود الفلسطيني في القطاع بات في خطر. من هنا، فإن فتح نقاش مع “حماس” مهم من أجل وضع بوصلة للخروج من الأزمة، أو بالأحرى لإخراج شعبنا من الورطة التي يعيشها بسبب بشاعة ما يقوم به الجيش الإسرائيلي. إن المستقبل أهم بكثير من البلاغة، ومستقبل الشعب لا يحتمل الخلاف الفصائلي. لذلك أقترح على “فتح”، وعلى كل التنظيمات، أن تأخذ زمام المبادرة في صياغة موقف واحد بخصوص التهدئة.. القصة ليست حكراً على “حماس”، ولا يمكن للأخيرة أن تواصل هذا التفرد بمستقبل قطاع غزة، وبالتالي بمستقبل القضية الوطنية. لا انتقاص من أحد هنا، ولكن فلسطين ومستقبلها أهم من الجميع. من هنا، فإن الحديث الفلسطيني الجماعي عن التهدئة يجب أن يكون المحرك الأساس في الحوار الوطني أيضاً. من لا يشعر أننا في ورطة، وأن مستقبل غزة في خطر، عليه أن يراجع نفسه بشكل عميق بعيداً عن النرجسية.
إن الاستعصاء في الحالة الوطنية لا يقل خطورة عن حرب الإبادة القائمة.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية