صعود الاستقلالية الاقتصادية لدول الجنوب: هل هي ردة فعل على سياسات “أميركا أولاً”؟
تتعرض الاستقلالية الاقتصادية لدول الجنوب العالمي لضغوط متزايدة في ظل التحولات الاقتصادية والسياسية العالمية. ففي السنوات الأخيرة، نظرت هذه الدول بشكل متزايد إلى سياسات الرئيس الأميركي السابق، دونالد ترامب، الاقتصادية الخارجية التي تركز على مبدأ “أميركا أولاً”، ليس كتهديد فحسب، بل كحافز لتعزيز الاستقلالية الاقتصادية وتقليل الاعتماد على النظام الاقتصادي المهيمن. لعقود طويلة، خضعت التنمية الاقتصادية في أمريكا اللاتينية وإفريقيا وأجزاء من آسيا لشروط التقشف الصارمة التي فرضها صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، بالإضافة إلى سياسات ديون قاسية واتفاقيات تجارية غير متكافئة. الرسوم الجمركية التي فرضها ترامب لم تكن سوى تصعيد لهذه الشروط، مما زاد من الضغوط على الاقتصادات النامية.
التجارة بين دول الجنوب: قوة صاعدة
يمثل التعاون المتزايد بين دول الجنوب العالمي أحد الجوانب الإيجابية القليلة في المشهد العالمي الحالي. شهدت التجارة بين دول الجنوب نمواً سريعاً، مؤدية إلى اكتساب نفوذ وخلق فرص جديدة. مع إضافة التجارة مع الصين، القوة الدافعة الرئيسية لهذا النمو، فإن التجارة بين دول الجنوب العالمي تمثل حالياً 55.6% من إجمالي التجارة العالمية، مقارنة بـ 38.3% في عام 1995. وباستثناء الصين، ترتفع هذه النسبة إلى 39.6% في عام 2023، مقارنة بـ 31.5% في عام 1995. يُظهر هذا التحول بوضوح سعي هذه الدول إلى تنويع الشركاء التجاريين وتقليل الاعتماد على الأسواق الغربية التقليدية. هذا التوجه يساهم بشكل مباشر في بناء الاستقلالية الاقتصادية وتقليل تأثير السياسات الخارجية التي قد تكون ضارة بمصالحها.
تاريخ من الأزمات: أزمة الديون المتكررة
النظام المالي والنقدي الدولي، بطبيعته، متحيز هيكلياً ضد دول الجنوب. ففي سبعينيات القرن الماضي، ارتفعت أسعار النفط بشكل كبير، مما سبب أعباءً اقتصادية كبيرة على أمريكا اللاتينية. أدى ما سمي بخطة “إعادة تدوير” فائض عائدات النفط دول أوبك إلى تفاقم المشكلة، حيث قامت تلك الدول بإيداع أرباحها في البنوك الغربية التي بدورها أقرضتها لأمريكا اللاتينية.
رفع أسعار الفائدة وتداعيات التقشف
استمر هذا الوضع حتى أزمة التضخم في منتصف السبعينيات، والتي دفعت بول فولكر، رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي، إلى رفع أسعار الفائدة إلى مستويات قياسية وصلت إلى 20%. تسبب ذلك في ارتفاع مدفوعات الفائدة على الديون المقومة بالدولار لأمريكا اللاتينية بينما انخفضت قيمة عملاتها بشكل حاد، مما أدى إلى أزمة ديون مدمرة. للحصول على جديدة أو تجديد القروض، أجبرت الدول على تبني سياسات تقشفية قاسية، أدت إلى “عقد ضائع” من النمو وتدهور ظروف المعيشة.
شهدت إفريقيا أزمة ديون مشابهة، ولكنها اتسمت بـ “صفقات فاسدة” بين القادة المحليين والمستثمرين الغربيين. غالباً ما كانت هذه الصفقات ممولة بالديون، ولكن معظم الأرباح كانت تتدفق إلى حسابات خارجية. وعندما أطيح بهؤلاء القادة، بقيت الديون على عاتق الدول والشعوب، مما أدى إلى تدخل صندوق النقد الدولي وشروط تقشف إضافية.
العودة إلى المأزق: الديون وسياسات الفائدة
تواجه معظم دول الجنوب العالمي نفس المأزق اليوم. بعد الأزمة المالية عام 2008، خفض بنك الاحتياطي الفيدرالي أسعار الفائدة في الولايات المتحدة، مما أدى إلى تدفق هائل لرأس المال إلى دول الجنوب بحثاً عن عوائد أعلى. في البداية، ساهم هذا التدفق في النمو الاقتصادي وزيادة الاقتراض.
ولكن، مع انخفاض أسعار السلع الأساسية في النصف الثاني من العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، وتفشي جائحة كوفيد-19، والحرب في أوكرانيا وتداعياتها، والصدمات المناخية، عاودت الولايات المتحدة رفع أسعار الفائدة. أدى ذلك إلى هروب رأس المال من دول الجنوب، مما أدى الى انخفاض قيمة العملات وارتفاع مستويات الديون. حالياً، ينفق 3.3 مليار شخص في دول الجنوب أكثر على سداد الديون الخارجية مما ينفقون على التعليم أو الرعاية الصحية. نتيجة لذلك، يعود صندوق النقد الدولي ليقدم “وصفة التقشف” التقليدية.
الحاجة إلى رؤية جديدة: بدائل التنمية
الوضع الحالي يتطلب تنمية اقتصادية مختلفة تماماً، مدفوعة بالتعاون المتزايد بين دول الجنوب. فبعد فترة وجيزة، شهد العالم نظاماً اقتصادياً عالمياً أكثر عقلانية واحتراماً استقلالية الدول في تحديد سياساتها الخاصة. بعد الكساد الكبير، سعت الولايات المتحدة وحلفاؤها إلى بناء نظام يوازن بين التجارة والسياسات الاجتماعية. مؤتمر “بريتون وودز” عام 1944، بمبادرة من الاقتصادي كينز والرئيس روزفلت، وضع قواعد عالمية سمحت بصفقات وطنية جديدة مع معايير صارمة على رأس المال وأسعار الصرف، بالإضافة إلى تمويل عام كبير.
الاستنتاج: نحو مستقبل أكثر استقلالية
إن سعي دول الجنوب العالمي نحو الاستقلالية الاقتصادية ليس مجرد رد فعل سلبي على السياسات الخارجية، بل هو بحث عن نموذج تنموي أكثر استدامة وإنصافاً. أثبت التعاون بين هذه الدول، من خلال التجارة بين بلدان الجنوب، وتأسيس بنوك التنمية الإقليمية، والمؤسسات النقدية الجديدة، إمكانات كبيرة. في حين أن التحديات لا تزال كبيرة، فإن الإرادة المتزايدة لبناء مستقبل اقتصادي مستقل تمثل نقطة تحول مهمة في النظام العالمي. يتطلب تحقيق هذا الهدف مزيداً من الطموح والتنسيق والابتكار، لكنه ليس مستحيلاً. يجب على دول الجنوب العمل معاً لتحديد أولوياتها الخاصة وبناء نظام اقتصادي عالمي يعكس مصالحها وتطلعاتها.
