في ظل التوترات الجيوسياسية المتصاعدة، تعيد بولندا تقييم استراتيجيتها الأمنية وتستثمر في تعزيز قدراتها الدفاعية، ليس فقط على مستوى الجيش، بل أيضًا من خلال إعداد المدنيين لمواجهة الأزمات المحتملة. ففي مشهد يعيد إلى الأذهان أيام الحرب الباردة، يتذكر البولنديون تدريبات الدفاع المدني التي كانت جزءًا من حياتهم في ظل الحكم الشيوعي، بينما يشارك الآلاف في برامج تدريبية جديدة تهدف إلى زيادة استعدادهم لأي طارئ. هذا التحول يعكس قلقًا عميقًا متزايدًا بشأن الأمن القومي، مدفوعًا بالأحداث الأخيرة في المنطقة، وعلى رأسها الحرب في أوكرانيا.
## الاستعداد للحرب: بولندا تُحيي تدريبات الدفاع المدني
يعود سيزاري بروزكو، البالغ من العمر 60 عامًا، إلى مقاعد الدراسة، ولكن هذه المرة ليس لتعلم مادة جديدة، بل لتحديث مهارات البقاء التي اكتسبها في طفولته خلال الحقبة الشيوعية. تلك التدريبات، التي كانت تتضمن قراءة الخرائط، وإتقان مهارات البقاء على قيد الحياة، وغرس الشعور الدائم بتهديد الحرب، تعود الآن إلى الواجهة في بولندا. يقول بروزكو، وهو يشارك في دورة تدريبية في قاعدة عسكرية خارج وارسو: “نشأ جيلي في ظل تلك التهديدات، ولم يكن هناك داعٍ لشرح أهمية ذلك”.
هذا التدريب ليس مجرد استعادة للذاكرة، بل هو جزء من برنامج وطني طموح يهدف إلى تدريب 400 ألف مواطن بولندي على التعامل مع الأزمات بحلول عام 2027. البرنامج، الذي يحظى بإقبال واسع، مفتوح لجميع الفئات العمرية، من طلاب المدارس إلى المتقاعدين، مما يعكس إدراكًا بأن الأمن القومي مسؤولية جماعية.
## برنامج تدريبي شامل لتعزيز المرونة الوطنية
البرنامج التدريبي الجديد لا يقتصر على الجوانب النظرية، بل يتضمن أيضًا تدريبات عملية مكثفة. فقد قام المشاركون بجولة في ملجأ من القنابل، وتدربوا على ارتداء أقنعة واقية من الغازات، وتعلموا كيفية إشعال النار باستخدام حجر الصوان. هذه المهارات، التي قد تبدو بسيطة، يمكن أن تكون حاسمة في حالات الطوارئ.
وفي كلمته خلال إطلاق البرنامج، أكد وزير الدفاع البولندي، فلاديسلاف كوسينياك – كاميش، على أهمية الاستعداد: “نحن نعيش في أخطر الأوقات منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، ويجب أن يمتلك كل واحد منا المهارات والمعرفة والمهارات العملية للتعامل مع الأزمات”. هذا التصريح يعكس بوضوح حالة التأهب القصوى التي تشهدها بولندا.
## التهديدات المتزايدة وتصعيد الإنفاق الدفاعي
إن وعي بولندا بالتهديدات المحيطة بها ليس وليد اللحظة. فموقعها الجغرافي في قلب أوروبا جعلها تاريخيًا عرضة للهجمات. لكن الحرب الروسية على أوكرانيا في عام 2022 أضافت بعدًا جديدًا للقلق، وزادت حدة التوتر هذا العام مع تحليق الطائرات بدون طيار في المجال الجوي البولندي، وتزايد الهجمات التخريبية التي يُشتبه في ارتباطها بالاستخبارات الروسية.
وقد أدت هذه الأحداث إلى إعادة تقييم شامل لمفهوم الأمن القومي في بولندا. ففي الشهر الماضي، وافقت الحكومة على مشروع ميزانية للعام المقبل يرفع الإنفاق الدفاعي إلى 4.8% من الناتج المحلي الإجمالي، وهو أعلى بكثير من مستويات الإنفاق لدى معظم دول حلف شمال الأطلسي (الناتو). بالإضافة إلى ذلك، يجري العمل على تجهيز المباني الجديدة بملاجئ للحماية من القنابل، وإعادة تأهيل الملاجئ القديمة التي أهملت لسنوات.
## “الدرع الشرقي”: تحصينات على الحدود
ولم يقتصر الأمر على ذلك، بل بدأت بولندا في بناء “الدرع الشرقي”، وهو سياج من الأسلاك الشائكة يمتد على طول حدودها مع بيلاروسيا ومقاطعة كالينينغراد الروسية. يهدف هذا المشروع إلى إنشاء حاجز مادي ضد أي محاولة لزعزعة الاستقرار أو التسلل إلى الأراضي البولندية.
وفي قاعدة عمليات متقدمة بالقرب من الحدود البولندية مع بيلاروسيا، أكد العميد رومان برودلو، قائد لواء الفرسان المدرع التاسع البولندي، أن الحرب في أوكرانيا قد غيرت بشكل جذري الصورة الأمنية في البلاد. وقال: “لقد ولّت الأوقات الهادئة للأسف، ونعيش في أوقات صعبة، في أوقات شديدة التقلب”. وأضاف، معربًا عن أمله في تجنب الحرب الشاملة: “أقرأ الصحف، وأستمع إلى الأخبار، وأرى التحليلات التي تجريها مختلف أجهزة الاستخبارات، والتي تقول إننا في غضون سنة أو سنتين أو خمس سنوات سنواجه حرباً شاملة من روسيا”.
## التهديدات الهجينة وتطوير القدرات العسكرية
يشير الضابط البولندي إلى أن روسيا قد تلجأ إلى تكتيكات “هجينة” للضغط على بولندا، مثل تشجيع “الهجرة غير الشرعية” على الحدود، بهدف إضعاف البلاد دون الوصول إلى عتبة الحرب المباشرة. ولهذا السبب، يركز الجيش البولندي على تطوير قدراته في مجالات مثل الحرب السيبرانية ومكافحة الطائرات بدون طيار.
وقد شارك النقيب كارول فرانكوفسكي، العامل في مجال الاتصالات بلواء الفرسان المدرع، في تدريبات “سيبر جانكشن” السنوية لحلف الناتو في ألمانيا، حيث تدرب مع جنود من أكثر من 10 دول على التعامل مع سيناريوهات هجوم هجين تتضمن انهيار القانون والنظام وفرض الأحكام العرفية.
## الاستعداد الشعبي: “سأدافع عن بلدي”
على الرغم من التهديدات المتزايدة، يبدو أن الروح المعنوية لدى الشعب البولندي عالية. ففي بلدة غولداب، الواقعة بالقرب من الحدود مع كالينينغراد، يعرب السكان المحليون عن استعدادهم للدفاع عن بلادهم إذا لزم الأمر.
تقول كورنيليا بريزينسكا، وهي طالبة تبلغ من العمر 15 عامًا وتدرس في المسار العسكري في الكلية: “روسيا تشكل تهديداً بالتأكيد، لكنه ليس تهديداً كبيراً، لأننا في حلف (الناتو)، ونحن محميون”. وتضيف بحزم: “إذا تعرضت البلاد للهجوم، سأذهب إلى الجبهة، أنا أحب بولندا حقاً، ولن أتخلى عنها”.
## حقوق الإنسان في ظل حالة الطوارئ
ومع ذلك، يثير التركيز المتزايد على الأمن القومي مخاوف بشأن حقوق الإنسان، خاصة فيما يتعلق بمعاملة المهاجرين وطالبي اللجوء على الحدود. فقد انتقدت ألكسندرا كرزانوفسكا، العضو في تحالف “غروبا غرانيكا”، الذي يدافع عن حقوق المهاجرين، سياسات الحكومة الصارمة، واصفًا إياها بأنها “خطاب عنصري يميني متطرف” لا يستند إلى حقائق.
وفي الختام، تعكس جهود بولندا في تعزيز قدراتها الدفاعية وإعداد المدنيين لمواجهة الأزمات إدراكًا عميقًا للتهديدات المتزايدة التي تواجهها. وبينما تتجه البلاد نحو مستقبل غير مؤكد، فإن الاستعداد والوحدة هما أفضل سلاحين لمواجهة التحديات القادمة. هذا التحول في الاستراتيجية الأمنية، من التركيز على الجيش النظامي إلى إشراك المجتمع المدني، يمثل خطوة مهمة نحو بناء أمة قادرة على الصمود في وجه أي أزمة.
