في حين كانت أنظار العالم تتجه نحو واشنطن، كانت أزمة سياسية تتكشف في برلين متمثلة في انهيار ائتلاف المستشار الألماني، أولاف شولتس، بعد إقالته وزير ماليته، كريستيان ليندنر، ما يعني أن ألمانيا لن تكون لديها حكومة عاملة، عندما يتولى الرئيس الأميركي القادم دونالد ترامب، منصبه في يناير، ولأشهر عدة بعد ذلك. ولن تنعقد انتخابات حتى منتصف مارس على الأقل، وحتى ذلك الحين، عادة ما يستغرق تشكيل حكومة جديدة أشهراً عدة.
وفي الوقت الحالي، ستظل حكومة شولتس، الأقلية «العرجاء»، قائمة. وكان السبب وراء انفصال الائتلاف المكوّن من ثلاثة أحزاب بين الديمقراطيين الاجتماعيين، والخضر والليبراليين، بقيادة ليندنر، هو الخلاف حول ما إذا كان ينبغي تعليق القواعد المالية لمواصلة دعم أوكرانيا. وأمر شولتس، ليندنر بإعلان حالة الطوارئ المالية لتمويل كييف وزيادة ميزانية الدفاع، لكن ليندنر رفض.
ولكن هذا لا يروي القصة كاملة. فقد وقعت ألمانيا في فخ أزمة اقتصادية لا تظهر أي علامة على نهايتها. وصار المزاج في البلاد يسوء تدريجياً، وخصوصاً في الصناعة. وتشير التوقعات إلى أن الركود سيستمر لسنوات عدة. وفي الوقت نفسه، تختلف الأحزاب الثلاثة الحاكمة بشكل أساسي حول الأسباب والعلاج.
سوء تقدير
وعلى الرغم من أن هذا الانحدار الاقتصادي قد لاحظه أخيراً، جمهور أوسع خارج ألمانيا، فإن أصوله العميقة تعود إلى وقت أطول من ذلك. فقد اتخذت ألمانيا أسوأ القرارات خلال حكم المستشارة السابقة، أنغيلا ميركل، الطويل، عندما تم الاحتفال بها زعيمة للعالم الغربي.
والمفاجأة ليست أن الاقتصاد تراجع، بل إنه عمل بشكل جيد لفترة طويلة. فقد أصبحت ألمانيا تعتمد بشكل مفرط على عدد قليل من الصناعات مثل السيارات والمواد الكيميائية. وكانت تعتمد على روسيا للحصول على الغاز، وعلى الصين للصادرات، ثم جاء الانفصال عن روسيا، بعد حرب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مع أوكرانيا. لقد تركت الجغرافيا السياسية ألمانيا تعتمد بشكل مفرط على الولايات المتحدة. والآن بعد فوز ترامب، يواجه اقتصادها تهديدات وجودية جديدة من خلال الرسوم الجمركية التي فرضتها على الواردات.
إلا أن الأسوأ من ذلك كله، هو أن البلاد تأخرت في مجال التكنولوجيا. وقد استمرت هذه «الوعكة» لفترة طويلة، لكن لم تتكشف إلا في العقد الماضي. وكانت ألمانيا بطلة العالم في عصر «التناظرية»، واخترعت محرك السيارة الذي يعمل بالوقود، والمجهر الإلكتروني، وموقد «بنسن»، إحدى أدوات التسخين ذات درجة الحرارة العالية المستخدمة بشكل شائع في المختبرات العلمية، لكنها لم تخترع الكمبيوتر، أو الهاتف الذكي، أو السيارة الكهربائية. واليوم، تمتلك ألمانيا واحدة من أسوأ شبكات الهاتف المحمول في أوروبا. ولا تزال آلة الفاكس هي السائدة في الجيش وفي عيادات الأطباء، وهناك العديد من المتاجر التي لا تزال تقبل النقد فقط.
فكيف يمكن إذن لدولة، كانت في وقت من الأوقات واحدة من أكثر الدول تقدماً من الناحية التكنولوجية على وجه الأرض، أن تتخلف عن الركب في مجال التكنولوجيا؟. الإجابة المختصرة هي أن هذا كان سوء تقدير وطني، وهو ما شارك فيه قادة الأعمال، والسياسيون والصحافيون والمعلمون. فقد تصوروا، باختصار، أنهم قادرون على الحفاظ على تخصص مربح إلى الأبد.
ومثل العديد من القصص الألمانية، تعود هذه القصة أيضاً إلى «الرايخ الثالث». كانت ألمانيا هي الدولة التي نشأ فيها رواد الثورة الرقمية. ويصور فيلم كريستوفر نولان (أوبنهايمر) مشهداً معبراً، حيث ينصح البطل كشاب بالدراسة في جامعة غوتنغن، وهي واحدة من أرقى الجامعات في ألمانيا والعالم، تخرّج فيها 47 فائزاً بجائزة نوبل في القرن الماضي.
وأثناء الحرب العالمية الثانية، أصبحت الولايات المتحدة مركزاً للأبحاث في الفيزياء الكمومية. واخترع المهندسون الأميركيون «الترانزستور» في عام 1947، وحصلوا على براءة اختراع للدائرة المتكاملة في عام 1961، والتي تعد أساس الصناعات الرقمية الحديثة.
ومن ناحية أخرى، خرجت ألمانيا من الحرب وجامعاتها العظيمة خالية من الفيزيائيين، لكنها كانت لا تزال متمسكة ببعض مجالات التميز التكنولوجي، بما في ذلك الهندسة الميكانيكية والكهربائية والكيمياء، وأصبح هذا الأساس لما عُرف في ما بعد بالمعجزة الاقتصادية الألمانية.
واستمرت السيارة التي اخترعها، غوتليب دايملر، في أواخر القرن الـ19 في توليد أرباح كبيرة حتى أواخر القرن الـ21، وانتهت هذه المرحلة الآن. وتخطط «فولكس فاغن» لإغلاق المصانع لأول مرة على الإطلاق. وأعلنت «أودي» و«بي إم دبليو» عن انخفاض حاد في الأرباح هذا الأسبوع.
وأحد الأسباب الرئيسة وراء عدم نجاح النموذج الاقتصادي الألماني الشهير بعد الآن، هو اعتماده على التكنولوجيا القديمة، لكن الصين أصبحت الآن تتعدى على القطاعات التي كانت تهيمن عليها الشركات الألمانية سابقاً. وبدأ سوء الحكم بشأن المستقبل الرقمي في وقت مبكر. عندما أصبح هلموت كول، مستشاراً في عام 1982، حيث فضّل الاستثمارات التي تنال رضا الشعب الألماني في وقت سياسي محدود، ومدح هو والرئيس الفرنسي آنذاك، فرانسوا ميتران، «تلفزيون الكابل» عالي الدقة، وهي تكنولوجيا العصر التناظري التي وعدت بإنتاج ما اعتقد الزعيمان أنه سيكون تجربة مشاهدة شعبية.
أسواق متخصصة
ولم تنطلق ألمانيا منذ ذلك الحين، وأصبحت دولة متخلّفة في مجال التقنية في عام 1993. وبعد عقد من الزمن، اتخذت حكومة المستشار السابق، غيرهارد شرودر القرار المشؤوم بأن مستقبل ألمانيا سيكون في الصناعة، فالناس يفعلون ما يجيدونه، وهكذا تفعل البلدان في المجمل.
فالولايات المتحدة لديها الصناعة الرقمية وهوليوود، وفرنسا لديها الطعام والنبيذ، والمملكة المتحدة لديها التمويل والأزياء. وتخصصت ألمانيا في السيارات والهندسة الميكانيكية والكيميائية. وتمتلك ألمانيا بعضاً من أكثر الشركات الصناعية شهرة في العالم، بما في ذلك سيمنز وفولكس فاغن، ومرسيدس بنز، وبي إم دبليو، وكونتيننتال، وهوكست، وباسف، وباير، وليند، ومانسمان، وبوش. وتختبئ تحت هذه الشركات العملاقة آلاف الشركات العائلية متوسطة الحجم التي تعمل في أسواق متخصصة للغاية. وكانت غالباً من رواد العالم في أسواقها. وبحلول عام 2019، أرادت حكومة ميركل مضاعفة اعتماد ألمانيا الصناعي بشكل أكبر.
لكن تلك الحكومة لم تعترف بأن العالم الرقمي بدأ يتجاوز التقنيات التناظرية. ويتضمن الهاتف الذكي وظائف كانت تتطلب في السابق العديد من الأجهزة الميكانيكية والكهربائية، وغيرها من الأجهزة المادية كالكاميرا، والمصباح اليدوي، والبوصلة، والخريطة، والهاتف أيضاً، وقد تم تصنيع العديد منها في ألمانيا.
وتسيطر التكنولوجيا الرقمية على صناعة السيارات أيضاً، الصناعة الأكثر أهمية في ألمانيا. وستحتاج السيارة دائماً إلى عجلات ومحاور تدور، لكن السيارة الكهربائية الحديثة لم تعد منتجاً ميكانيكياً في الأساس، ومعظم قيمتها الاقتصادية يكمن في البرنامج والبطارية.
ومع تعدي البرنامج على الأجهزة التقليدية، تنشأ شركات جديدة دائماً. لم تكن شركة «سميث كورونا»، شركة الآلات الكاتبة الأميركية، هي التي اخترعت الكمبيوتر الشخصي. وحاولت «سميث كورونا»، دمج الكمبيوتر في آلاتها الكاتبة وكانت جيدة جداً في ذلك، لكنها لم تستطع التفكير أبعد من الآلة الكاتبة.
وتعاني ألمانيا مشكلة «سميث كورونا». فقد كانت متمسكة بالتقنيات القديمة والشركات القديمة لفترة طويلة جداً، وهنا يأتي دور السياسة، حيث إن الابتكارات التي كانت الحكومات مهتمة بها، محددة بما قررت فولكس فاغن، وبي إم دبليو، ومرسيدس ابتكاره. ولم يعمل العالم الرقمي على هذا النحو. إنه عالم من الشركات الناشئة وعمالقة التكنولوجيا الجدد نسبياً.
وفي الصين، كانت بكين هي التي زرعت بذور الثورة التكنولوجية. وفي الوقت نفسه، استمرت ألمانيا في الاعتماد على البنوك، لكن البنوك لا تموّل الشركات الناشئة عادة، فهي تقرض مقابل ضمانات.
وتقدّم ألمانيا شبكات دعم للشركات القائمة، لكن ليس للشركات الناشئة، وهي تفتقر إلى صناعة رأس المال الاستثماري الحديثة وأسواق رأس المال التي تسمح لها بالنمو السريع. وتستهدف الإعانات الشركات الكبيرة ذات الإدارات القانونية، وليس رواد الأعمال. والمشكلة في البيروقراطية هي أن الشركات الكبيرة تجد السبل لإدارتها، أما الشركات الصغيرة فلا تفعل ذلك. عن «التايمز» اللندنية
• التوقعات تشير إلى أن الركود سيستمر لسنوات عدة. وفي الوقت نفسه، تختلف الأحزاب الثلاثة الحاكمة بشكل أساسي حول الأسباب والعلاج.
• أحد الأسباب الرئيسة وراء عدم نجاح النموذج الاقتصادي الألماني الشهير، هو اعتماده على التكنولوجيا القديمة.