أوروبا تعيد التسلح: ألمانيا في قلب التغيير الاستراتيجي
بدأت القارة الأوروبية تدرك بشكل متزايد أن التهديد المتنامي، وآخرها الحرب في أوكرانيا، يستدعي استثمارات ضخمة في القدرات الدفاعية. لم يعد الحديث عن السلام الدائم مجرد شعار، بل أصبح الاستعداد لمواجهة أسوأ السيناريوهات ضرورة حتمية. هذا التحول يتطلب إعادة تسليح شاملة وتحديثًا عسكريًا للجيوش والأساطيل والقوات الجوية، ويضع ألمانيا، القوة الاقتصادية الكبرى في أوروبا، في موقع محوري. إعادة التسلح الأوروبي ليست خيارًا، بل هي استجابة لواقع جيوسياسي جديد.
تحول استراتيجي في أوروبا: الاستجابة للتهديد الروسي
تصاعد التوترات مع روسيا، خاصة بعد الأحداث في أوكرانيا، كان بمثابة نقطة تحول كبرى في السياسات الدفاعية الأوروبية. لسنوات طويلة، اعتمدت أوروبا بشكل كبير على الولايات المتحدة في مجال الأمن والدفاع. لكن مع تزايد الشكوك حول مدى التزام واشنطن المستقبلي، وتصريحات تطالب الدول الأوروبية بتحمل مسؤولية أكبر عن أمنها، أدركت القارة العجوز الحاجة الملحة إلى تعزيز قدراتها الدفاعية الذاتية. الأمن الأوروبي لم يعد مضمونًا، والاعتماد على الحلفاء وحده لا يكفي.
ألمانيا: محرك إعادة التسلح الأوروبي
تستحوذ ألمانيا على اهتمام خاص في هذا السياق. فهي لا تعد ثالث أكبر اقتصاد في العالم فحسب، بل هي الأكبر في أوروبا، وتمتلك قاعدة صناعية قوية. بالإضافة إلى ذلك، تعتبر ألمانيا الدولة الأكثر اكتظاظًا بالسكان في القارة، مما يجعلها قوة بشرية هائلة محتملة.
على الرغم من ذلك، شهدت ألمانيا بعد نهاية الحرب الباردة خفضًا كبيرًا في الإنفاق الدفاعي. ركزت الحكومات المتعاقبة على قضايا داخلية مثل إعادة توحيد البلاد وتطوير البنية التحتية، مما أدى إلى إهمال القوات المسلحة. على مدى العقود الثلاثة الماضية، عانى الجيش الألماني من نقص مزمن في التمويل، وتدهور المعدات، وقلة الاستعداد القتالي.
هدف الـ 2% من الناتج المحلي الإجمالي: تحقيق متأخر
اتفق حلف شمال الأطلسي (الناتو) على هدف تخصيص 2% من الناتج المحلي الإجمالي للإنفاق الدفاعي في عام 2004، وتم اعتماده رسميًا في عام 2006، ثم تم تجديده في عام 2014. إلا أن ألمانيا لم تتمكن من تحقيق هذا الهدف إلا مؤخرًا، في العام الماضي. هذا التأخر يعكس التردد السياسي والتحديات الاقتصادية التي واجهت ألمانيا في السنوات الأخيرة.
حالة الجيش الألماني: تقييم الوضع الحالي
عقود من التقشف أدت إلى وضع كارثي للجيش الألماني. تشير التقارير إلى أن القوات البرية جاهزة بنسبة 50% فقط، وأن هناك تراكمًا هائلاً في صيانة المعدات، تقدر بمليارات اليوروهات. وفي عام 2018، كان هناك عدد قليل من الطائرات المقاتلة “يوروفايتر – تايفون” جاهزة للعمل، مما يوضح مدى التدهور الذي وصل إليه سلاح الجو.
وبالنظر إلى المستقبل، تحتاج ألمانيا إلى زيادة حجم جيشها بشكل كبير، من 182 ألف جندي حاليًا إلى 260 ألفًا في غضون عشر سنوات. هذا يتطلب استثمارات ضخمة في التجنيد والتدريب والمعدات.
صندوق الـ 100 مليار يورو وما بعده: التمويل وإعادة التسلح
بعد الغزو الروسي لأوكرانيا في عام 2022، أعلن المستشار الألماني السابق أولاف شولتس عن تخصيص صندوق خارج الميزانية بقيمة 100 مليار يورو لتحديث المعدات العسكرية. ولكن سرعان ما تبين أن هذا المبلغ غير كافٍ لتلبية الاحتياجات المتزايدة.
في مارس 2025، نجح خليفة شولتس، فريدريش ميرتس، في إقناع البرلمان بتعديل القانون الأساسي وإلغاء “فرامل الديون” التي كانت تقيد العجز الهيكلي. هذا القرار فتح الباب أمام زيادة كبيرة في الميزانية العسكرية، من 86 مليار يورو في عام 2025 إلى 108.2 مليار يورو في عام 2026. تعتزم ألمانيا الآن الالتزام بهدف الناتو المعدل، وهو إنفاق 3.5% من الناتج المحلي الإجمالي على الدفاع الأساسي، و1.5% إضافية على تعزيز الأمن والمرونة. لتمويل هذه المشاريع الطموحة، تخطط الحكومة لاقتراض ما يصل إلى 400 مليار يورو إضافية على مدى السنوات الخمس القادمة.
خطط الشراء وتعزيز الصناعات الدفاعية الألمانية
أعلنت وزارة الدفاع الألمانية عن خطة شراء ضخمة بقيمة 377 مليار يورو، تشمل عقودًا فورية واستثمارات طويلة الأجل. تتماشى هذه الخطة مع الجهود الأوسع نطاقًا في أوروبا لتعزيز الصناعات الدفاعية المحلية. تهدف ألمانيا إلى الاستفادة من هذه الفرصة لدعم الشركات الألمانية وتوفير فرص عمل جديدة.
من المتوقع أن تستفيد شركات تصنيع المعدات الدفاعية الألمانية بشكل كبير من هذه الخطط، حيث تم تخصيص 182 مليار يورو لها. شركة “رينميتال أي جي” على وجه الخصوص، من المتوقع أن تحصل على طلبات بقيمة 88 مليار يورو، تشمل مركبات قتالية ودروعًا وأنظمة مضادة للطائرات. كما ستلعب شركة “ديل دفانس” دورًا رئيسيًا في توفير صواريخ وأنظمة دفاع جوي متطورة.
الاعتماد على الولايات المتحدة: نحو اكتفاء ذاتي أكبر
تهدف خطط الشراء الألمانية إلى تقليل الاعتماد على الولايات المتحدة، حيث من المتوقع أن تمثل المشتريات من أمريكا حوالي 10% فقط من إجمالي المشتريات الجديدة. ويعكس هذا التحول الرغبة في تعزيز قطاع الدفاع الأوروبي وتقليل التبعية الاستراتيجية لواشنطن.
ومع ذلك، لا تزال ألمانيا تعتمد على الولايات المتحدة في مجالات حيوية مثل القدرات النووية والضربات بعيدة المدى والاستخبارات والدفاع المضاد للصواريخ. وإذ يتصاعد التحدي الأمني، ستظل هذه الجوانب ضرورية لضمان أمن أوروبا. الجيش الألماني يحتاج إلى تحديث شامل، ولكنه لا يزال بحاجة إلى دعم حلفائه في الناتو.
مستقبل أوروبا الدفاعي: بين الطموح والواقع
تعتبر خطط إعادة التسلح الألمانية جزءًا من جهد أوسع نطاقًا في أوروبا لتعزيز الأمن والدفاع. يبقى التحدي هو الموازنة بين الطموحات المتمثلة في تحقيق الاكتفاء الذاتي والالتزامات القائمة تجاه حلفاء الناتو. إنها شبكة معقدة من التحديات والفرص، وتوضح التوجهات طويلة الأجل في السياسة الدفاعية الألمانية. الوضع الحالي يمثل بداية مرحلة جديدة في العلاقات عبر الأطلسي، حيث تسعى أوروبا إلى لعب دور أكثر استقلالية في تأمين مستقبلها.