على الرغم من كونها من أكثر الحيوانات الأليفة شعبية في العالم، إلا أن تاريخ استئناس القطط ظل لغزاً محيراً للعلماء. دراسة جينية حديثة، نشرت نتائجها في مجلة Science المرموقة، قدمت اكتشافاً مفاجئاً حول استئناس القطط، حيث كشفت عن التوقيت الزمني الدقيق لوصولها إلى أوروبا من شمال إفريقيا، مما يغير فهمنا لكيفية تحول هذه الحيوانات البرية إلى رفقاء مقربين للبشر.
القطط في أوروبا: رحلة عبر الزمن
لطالما كانت هناك نظريات متضاربة حول كيفية وصول القطط إلى أوروبا. الفكرة السائدة كانت أن الاستئناس بدأ في عصور ما قبل التاريخ، مع انتقال المزارعين من الشرق الأدنى والشرق الأوسط القديم إلى أوروبا، حاملين القطط معهم. لكن الدراسة الجديدة تقدم دليلاً قوياً على أن القصة أكثر تعقيداً، وأن القطط لم تبدأ في الاندماج في المجتمعات الأوروبية إلا في وقت لاحق مما كان يعتقد سابقاً.
ماذا كشف التحليل الجيني؟
قام فريق البحث، بقيادة عالم الجينات كلاوديو أوتوني من جامعة روما تور فيرجاتا في إيطاليا، بتحليل بيانات جينية من بقايا قطط تم العثور عليها في 97 موقعاً أثرياً في جميع أنحاء أوروبا والشرق الأدنى. وشمل التحليل 225 عظمة من القطط، سواء كانت أليفة أو برية، تعود إلى فترة زمنية واسعة تمتد لأكثر من 10 آلاف سنة. وقد تمكن الباحثون من استخلاص 70 جي نوماً قديماً للقطط، مما سمح لهم بتتبع تاريخها التطوري.
تحديد التوقيت الجيني
أظهر التحليل أن أقدم جينومات للقطط المنزلية في أوروبا تعود إلى فترة الإمبراطورية الرومانية، بدءاً من القرن الأول الميلادي. والأكثر من ذلك، أن بقايا القطط التي تعود إلى العصور ما قبل التاريخ لم تكن تنتمي إلى القطط الأليفة، بل إلى القطط البرية. هذا يشير إلى أن عملية استئناس القطط في أوروبا لم تبدأ إلا مع وصول القطط من شمال إفريقيا.
دور التجارة البحرية والإمبراطورية الرومانية
تشير الدراسة إلى أن القطط الأليفة وصلت إلى أوروبا على الأرجح عن طريق التجارة البحرية خلال أوائل عصر الإمبراطورية الرومانية. كان البحارة الرومان يحتاجون إلى وسيلة للسيطرة على الفئران على متن سفنهم التي كانت تنقل الحبوب من مصر الخصبة إلى الموانئ الرومانية. لذلك، قاموا باستقدام القطط، التي كانت تعتبر صيادين فعالين للفئران.
بالإضافة إلى ذلك، لعب الجيش الروماني دوراً مهماً في انتشار القطط في جميع أنحاء القارة. حيث كانت المواقع العسكرية الرومانية منتشرة في جميع أنحاء أوروبا، وكانت القطط تصاحب الجنود كحيوانات أليفة أو للسيطرة على القوارض في المعسكرات. وقد تم العثور على بقايا قطط في مواقع المعسكرات الرومانية، مما يدعم هذه الفرضية.
مراحل متعددة لانتشار القطط
لم يكن وصول القطط إلى أوروبا عملية واحدة بسيطة. حددت الدراسة مرحلتين رئيسيتين للهجرة. في البداية، قبل حوالي 2200 عام، جلب البشر القطط البرية من شمال غرب إفريقيا إلى جزيرة سردينيا. ومع ذلك، لم تكن هذه القطط أليفة بعد. بعد حوالي قرنين من الزمان، حدثت هجرة منفصلة من شمال إفريقيا، وهذه المرة كانت القطط تحمل بالفعل علامات الاستئناس، وشكلت الأساس الجيني للقطط المنزلية الحديثة في أوروبا.
الاستئناس ليس حدثاً واحداً
أكدت الدراسة أيضاً أن عملية ترويض القطط لم تكن محصورة في منطقة أو ثقافة واحدة. بل لعبت عدة مناطق وثقافات في شمال إفريقيا دوراً في عملية الاستئناس، مما يشير إلى أن القطط قد بدأت في التكيف مع الحياة مع البشر في أماكن مختلفة قبل وصولها إلى أوروبا. هذا يضيف طبقة من التعقيد إلى فهمنا لكيفية تطور العلاقة بين القطط والبشر.
أهمية القطط في المجتمعات البشرية
كما أوضح عالم الحفريات ماركو دي مارتينو، فإن دخول القطط إلى أوروبا يمثل لحظة مهمة في علاقتها طويلة الأمد مع البشر. فالقطط ليست مجرد حيوانات أليفة، بل أصبحت جزءاً لا يتجزأ من المجتمعات البشرية والاقتصادات وحتى المعتقدات. ففي مصر القديمة، كانت القطط تحظى بمكانة خاصة، وكان الملوك يحتفظون بقطط أليفة ويحنطونها أحياناً.
ماذا عن المستقبل؟
على الرغم من أن الدراسة قدمت رؤى قيمة حول تاريخ استئناس القطط، إلا أنها لم تكشف عن توقيت ومكان الاستئناس الأول للقطط. كما قال أوتوني، فإن ترويض القطط عملية معقدة، وما يمكن قوله حالياً هو توقيت دخول القطط المنزلية إلى أوروبا من شمال إفريقيا. لا يزال هناك الكثير لنتعلمه عن المراحل المبكرة من هذه العلاقة الفريدة بين الإنسان والحيوان.
تفتح هذه الدراسة الباب أمام المزيد من الأبحاث في مجال علم الوراثة وعلم الآثار الحيوانية، بهدف فهم أعمق لتاريخ القطط وكيفية تطورها لتصبح الحيوانات الأليفة المحبوبة التي نعرفها اليوم. إنها تذكير بأن تاريخنا متشابك مع تاريخ الحيوانات التي شاركتنا حياتنا، وأن فهم هذا التاريخ يمكن أن يعزز تقديرنا لهذه الكائنات الرائعة.
