أظهرت دراسة علمية حديثة أن أدمغة مشجعي كرة القدم تشهد نشاطاً عصبياً مكثفاً أثناء متابعة مباريات فرقهم المفضلة، مما يؤدي إلى توليد مشاعر قوية، إيجابية وسلبية، وتأثيرات ملحوظة على السلوكيات المصاحبة لهذه التجربة العاطفية. هذه الدراسة، التي نشرت نتائجها في دورية Radiology المرموقة، تلقي الضوء على الآليات العصبية الكامنة وراء التعصب الرياضي، وكيف يمكن أن تتشكل هذه الدوائر العصبية منذ الطفولة.
النشاط الدماغي أثناء مشاهدة كرة القدم: نافذة على الهوية الاجتماعية
استغلت الدراسة شعبية كرة القدم العالمية كنموذج واقعي لفهم الهوية الاجتماعية والتفاعل العاطفي في المواقف التنافسية. فجماهير كرة القدم تُظهر طيفاً واسعاً من السلوكيات، بدءاً من المشاهدة الهادئة وصولاً إلى الانغماس العاطفي العميق. أكد الباحثون أن هذه الظاهرة ليست مقتصرة على الرياضة فحسب، بل يمكن أن تساعد في تفسير سلوكيات التعصب في مجالات أخرى مثل السياسة والطائفة. التنافس بين الفرق له جذور تاريخية عميقة، والمشجعون يبدون ولاءً شديداً لفرقهم ولاعبيهم، ويتأثرون بشكل كبير بالنتائج.
منهجية الدراسة: الرنين المغناطيسي الوظيفي يكشف الأسرار
أجريت الدراسة في تشيلي، وشملت 60 مشجعاً ذكراً تتراوح أعمارهم بين 20 و45 عاماً، ينتمون إلى فرق متنافسة تاريخياً. استخدم الفريق البحثي التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي (fMRI) لدراسة النشاط الدماغي للمشاركين أثناء مشاهدتهم لمباريات مختلفة. شاهد المشاركون 63 مقطع فيديو لأهداف من مباريات فرقهم المفضلة، ومباريات فرق المنافسين، ومباريات لفرق محايدة. تم قياس مستوى التعصب الرياضي باستخدام مقياس خاص يقيم الميل للعنف والشعور بالانتماء.
إشارات المكافأة وقشرة الحزام الأمامي الظهري
أظهرت النتائج أن النشاط الدماغي يتغير بسرعة استجابة لنجاح أو فشل الفريق المفضل. تضاعفت إشارات المكافأة في الدماغ عند تسجيل الفريق لأهداف ضد المنافسين مقارنة بالفرق المحايدة. في المقابل، لوحظ نشاط منخفض بشكل ملحوظ في قشرة الحزام الأمامي الظهري، وهي منطقة في الدماغ مسؤولة عن التحكم المعرفي، عند التعرض للهزيمة. هذا الانخفاض يعكس محاولة الدماغ كبح المشاعر السلبية، ولكنه يؤدي في الواقع إلى تفاقم الاستجابات العاطفية.
التعصب الرياضي: تعزيز الروابط الجماعية وتأثيره على السلوك
سجلت مناطق نظام المكافأة أعلى نشاط عند تسجيل الفريق المفضل لأهداف ضد المنافسين، مما يشير إلى تعزيز الروابط الجماعية وتقوية الهوية الاجتماعية. أكد الباحثون أن تأثير التعصب يكون أقوى لدى المشجعين الأكثر حماسة، وهو ما يفسر قدرة الأفراد العقلانيين على الانفعال بشكل غير متوقع أثناء المباريات. هذا يؤكد على الدور القوي للعواطف في تشكيل سلوكياتنا، حتى في سياقات تبدو عقلانية.
تطبيقات الدراسة: إدارة الجماهير والوقاية من التعصب
خلص الباحثون إلى أن تبريد المشاعر أو الابتعاد عن محفزات التوتر قد يسمح باستعادة قدرة الحزام الأمامي الظهري على التحكم الذاتي مؤقتاً. الأهم من ذلك، أن هذه الآلية العصبية ليست محصورة بالرياضة، بل يمكن أن تتوسع لتفسير سلوكيات التعصب السياسي والطائفي. فهم هذه الآليات يمكن أن يساعد في تطوير “استراتيجيات لإدارة الجماهير” والتواصل أثناء الأحداث الكبيرة، والحد من المخاطر الصحية والسلوكية على مستوى المجتمع.
الطفولة المبكرة: أساس التعصب
أشار الباحثون إلى أن دراسة التعصب تكشف عن آليات عصبية يمكن أن تتوسع من شغف الملاعب إلى الاستقطاب السياسي والعنف. تتشكل هذه الدوائر العصبية في مرحلة الطفولة المبكرة، حيث تؤثر جودة الرعاية والتعرض للضغوط والتعلم الاجتماعي في توازن التحكم والمكافأة في الدماغ، مما يجعل الأفراد عرضة للتأثر بخطابات التعصب لاحقاً في حياتهم. لذلك، فإن حماية مرحلة الطفولة المبكرة وتعزيز التعلم الاجتماعي الإيجابي يعدان من أقوى الاستراتيجيات للوقاية من التعصب.
دلالات واسعة على الصحة العامة والسياسة
تحمل نتائج هذه الدراسة دلالات واسعة على صعيد الصحة العامة، وإدارة الجماهير، وحتى السياسة. يظهر أن المكافأة ترتفع والتحكم يقل تحت تأثير المنافسة والتعصب، مما يؤدي إلى تصرفات عاطفية قوية يمكن أن تكون ضارة على المستوى الفردي والمجتمعي. أحداث مثل اقتحام مبنى الكونجرس الأميركي في يناير 2021 تُظهر كيف يمكن للتعصب السياسي أن يتجاوز القيم الديمقراطية عندما يصل اندماج الهوية إلى ذروته.
في الختام، تقدم دراسة النشاط العصبي في مشجعي كرة القدم رؤى قيمة حول كيفية تكوين التعصب والانفعالات الشديدة في الدماغ. هذه المعارف يمكن تطبيقها على فهم الانفعالات الجماعية في مجالات السياسة والدين والمجتمع، والتدخل المبكر في حياة الأطفال يمكن أن يقلل من احتمالية تطور التعصب في المستقبل. إن فهم هذه الآليات العصبية يمثل خطوة مهمة نحو تعزيز الصحة العامة والتماسك الديمقراطي.
اقرأ أيضاً
باحثون يحددون المنطقة الدماغية المسؤولة عن “التفكير المنطقي”
تمكَّن باحثون في جامعة “كوليدج لندن” البريطانية من تحديد المناطق الدماغية المسؤولة عن القدرة على التفكير المنطقي وحل المشكلات المعقدة.
