أحدثت التطورات المتسارعة في مجال الذكاء الاصطناعي التوليدي ثورة في مختلف القطاعات، والتعليم العالي ليس استثناءً. فقد كشفت دراسة علمية حديثة عن استخدام هذه التقنية المتطورة بالفعل داخل بعض الجامعات البريطانية لتقييم جودة الأبحاث، مما يثير تساؤلات حول مستقبل آليات التقييم الأكاديمي التقليدية.
الذكاء الاصطناعي التوليدي وتقييم الأبحاث في الجامعات البريطانية
أظهرت الدراسة، التي قادها باحثون من جامعة بريستول، أن الذكاء الاصطناعي التوليدي يمتلك القدرة على تغيير جذري في آليات التقييم الوطني للأبحاث في قطاع التعليم العالي. وتشير النتائج إلى إمكانية زيادة الكفاءة وتقليل التكاليف بشكل كبير، خاصةً في ظل الضغوط المالية المتزايدة التي تواجهها الجامعات البريطانية.
نطاق الاستخدام الحالي للذكاء الاصطناعي
على الرغم من حالة الشك والقلق التي تسود الأوساط الأكاديمية بشأن الاعتماد على هذه التقنية، فقد كشفت الدراسة عن استخدام أدوات الذكاء الاصطناعي التوليدي “بشكل واسع، ولكن غير معلن” خلال التحضير لتقديم الملفات البحثية الخاصة بنظام “التميز البحثي” (Research Excellence Framework – REF). يختلف نطاق الاستخدام بين المؤسسات، حيث تستخدم بعضها هذه الأدوات لجمع الأدلة على تأثير الأبحاث في المجتمع وصياغة قصص التأثير، بينما طورت جامعات أخرى أنظمة ذكاء اصطناعي داخلية لتسريع عمليات التقييم أو مساعدة في مراجعة الأبحاث وإسناد الدرجات.
التفاوت بين الجامعات في تبني التقنية
أظهرت البيانات أن مستوى الاستفادة من أدوات الذكاء الاصطناعي يرتبط بشكل مباشر بقدرات الجامعات من حيث الموارد والخبرات التقنية. وهذا يخلق عدم تكافؤ واضح بين الجامعات الكبرى، مثل تلك المنتمية لمجموعة راسل (Russell Group)، والمؤسسات الأحدث والأقل تمويلاً. هذا التفاوت يثير مخاوف بشأن العدالة والمساواة في عملية التقييم.
التحديات والفرص التي يطرحها الذكاء الاصطناعي
تأتي هذه التطورات في وقت تستعد فيه بريطانيا لتغييرات مرتقبة في نظام تقييم الأبحاث من خلال نظام “التميز البحثي”، الذي يتحكم في كيفية توزيع ما يقرب من ملياري جنيه إسترليني سنوياً كتمويل بحثي للجامعات. وبالرغم من أن التكلفة الإجمالية للدورة الأخيرة من “التميز البحثي” في عام 2021 بلغت نحو 471 مليون جنيه إسترليني، من المتوقع أن تكون تكاليفها في 2029 أعلى بكثير.
الحاجة إلى حوكمة قوية ومعايير مشتركة
أكد المؤلف الرئيسي للدراسة، ريتشارد ووترماير، أن الذكاء الاصطناعي التوليدي يمكن أن “يغيّر قواعد اللعبة” على مستوى التقييم الوطني، مما يسمح بخلق بيئة أكثر كفاءة وعدالة. ومع ذلك، حذر ووترماير من أن دمج هذه الأدوات لا يشكل حلاً كاملاً، بل قد يولّد تحديات بيروقراطية جديدة من خلال فرض متطلبات وبروتوكولات تنظيمية إضافية. هناك حاجة ملحة إلى حوكمة قوية ومعايير مشتركة على المستوى المؤسسي والوطني لضمان الاستخدام المسؤول والأخلاقي لهذه التقنية.
مواقف الأكاديميين تجاه استخدام الذكاء الاصطناعي
أظهر استطلاع واسع شمل ما يقرب من 400 أكاديمي وعضو من طاقم الخدمات المهنية في الجامعات معارضة كبيرة لاستخدام الذكاء الاصطناعي في مختلف جوانب دورة التقييم. سجلت نسبة الاعتراض القوي بين 54% و75% من المشاركين باختلاف بنود عملية “التميز البحثي”. ومع ذلك، أبدع حوالي ربع المشاركين (23%) دعماً لاستخدام الذكاء الاصطناعي في مساعدة الجامعات على إعداد دراسات الحالات الخاصة بتأثير الأبحاث.
التوصيات والمستقبل
خلصت الدراسة إلى أن قطاع التعليم العالي يقف عند مفترق طرق تاريخي. وقدمت سلسلة من التوصيات للمرحلة المقبلة، بما في ذلك ضرورة اعتماد كل جامعة سياسة واضحة وشفافة تحكم استخدام الذكاء الاصطناعي في الأعمال البحثية، وبرامج تدريب شاملة لتمكين أعضاء هيئة التدريس والموظفين الإداريين من الاستخدام المسؤول والفعّال لهذه الأدوات، وتطبيق ضوابط قوية للأمن الرقمي وإدارة المخاطر المصاحبة. كما دعت الدراسة إلى وجود منظومة رقابية وطنية تتضمن إطاراً موحداً لحوكمة الذكاء الاصطناعي، وتطوير منصة ذكاء اصطناعي مشتركة متاحة لجميع المؤسسات التعليمية.
في الختام، يمثل الذكاء الاصطناعي التوليدي فرصة وتحدياً في آن واحد لقطاع التعليم العالي. قدرة الجامعات على تحقيق التوازن بين الابتكار والحذر سوف تحدد مستقبل تقييم البحوث في المملكة المتحدة خلال السنوات المقبلة، في خطوة من شأنها رسم ملامح الجيل الجديد من السياسات البحثية على المستويين الوطني والدولي.
اقرأ أيضاً: ابتكار تقنية تجعل الذكاء الاصطناعي “صديقاً للبيئة”
اقرأ أيضاً: باحثون يتوصلون إلى أداة جديدة تساعد الذكاء الاصطناعي على ابتكار مواد فريدة
