في قلب دبي، تتشابك حكايات الكفاح والنجاح مع عبق النكهات الأصيلة، لتُخلّد أسماءً لم تكن لتُعرف لولا هذه المدينة التي احتضنت أحلامهم. من الكافتيريات المتواضعة إلى المطاعم الصغيرة، يجد أصحابها في دبي أرضاً للفرص، محققين أحلامهم بين جنباتها، ليصبحوا جزءاً لا يتجزأ من ذاكرة أهلها. ومن بين هذه القصص الملهمة، تبرز حكاية “رويال تشيلز” (Royal Chili’s)، أو كما يعرفها الكثيرون “تشيليز زعبيل”، تلك الكافتيريا التي بدأت كـ”دكان مسجد” صغير، لتتحول مع مرور الزمن إلى معلم من معالم المدينة ورمز للحنين إلى الماضي. هذه القصة هي تجسيد حقيقي لـ قصص نجاح في دبي، وكيف يمكن لبساطة البدايات أن تقود إلى شعبية واسعة.
من “دكان المسجد” إلى “رويال تشيلز”: رحلة في ذاكرة دبي
في زاوية هادئة بالقرب من مسجد زعبيل، يقف “رويال تشيلز” اليوم، شاهداً على عقود من الزمن. طابور السيارات المتراصة، من سيارات الدفع الرباعي إلى المركبات الرياضية، يعكس الإقبال الكبير على هذا المكان المتواضع. الزبائن يتوافدون من مختلف الجنسيات، باحثين عن تلك الشطيرة الساخنة التي تخرج من مطبخ صغير، ولكنها تحمل في طياتها مذاقاً لا يُنسى.
الكثير من رواد المكان لا يزالون يفضلون تسميته القديمة، “دكان المسجد” أو “تشيليز زعبيل”، وهو ما يعكس مدى ارتباطهم بهذا المكان وتاريخه. هذه التسميات ليست مجرد أسماء، بل هي جزء من ذكرياتهم وحنينهم إلى الماضي.
البدايات المتواضعة: حلم يتحقق في عام 1981
تعود قصة “تشيليز زعبيل” إلى عام 1981، عندما قرر خال شاهد بوللتايكوني، وهو ابن شقيق صاحب الكافتيريا، تأسيس مشروعه الخاص بالقرب من مسجد زعبيل الكبير. يستعيد شاهد تلك اللحظات قائلاً: “لقد قدم خالي إلى دبي في عام 1972، ليمتهن أعمالاً عدة، قبل أن يقرر تأسيس مشروعه الخاص. ومنذ ذلك اليوم، ارتبطت حياتنا العائلية بهذا المكان الصغير الذي تصطف أمامه عشرات السيارات الفارهة والزبائن من جنسيات متعددة”.
في البداية، كانت الرخصة التجارية للمكان تحمل اسم “عيون الريم”، ثم تغير الاسم عدة مرات، ولكن زبائن المكان ظلوا متمسكين بتسمياتهم الخاصة، مثل “تشيليز زعبيل” و”دكان مسجد زعبيل”. وعلى الرغم من اعتماد الاسم الجديد “كافتيريا رويال تشيلز” منذ سنوات قليلة، إلا أن اسم “تشيليز زعبيل” لا يزال الأكثر قرباً إلى قلوب الزبائن. هذه الولاءات تعكس قوة العلامات التجارية الشعبية في دبي، وكيف يمكن للمكان أن يصبح جزءاً من هوية المجتمع.
سر النكهة: خلطات وأسرار عائلية
وراء نجاح “رويال تشيلز” تكمن وصفة سرية من النكهات التي أصبحت علامة مميزة في ذاكرة هذا المحل. يقول شاهد: “منذ اليوم الأول، اعتمد خالي ساندويتش النقانق بالصمون، أو البراتا كأحد الأصناف الأساسية للمحل، فمزجها بلمسة من الجبن، ورشة من (شيبس عمان)، إلى جانب خلطته السرية الخاصة من النقانق مع الدقوس”.
تركيبة الصلصة ليست مجرد وصفة هندية جاهزة أو مأخوذة من مرجع متخصص، بل هي خلطة اشتغل عليها خال شاهد بنفسه، وكانت قريبة من الذوق العربي. وعلى الرغم من المحاولات المستميتة لتقليد هذه الصلصة، إلا أنها حافظت على خصوصيتها، وبقيت سراً عائلياً غير مباح. هذا السر هو ما يميز “رويال تشيلز” عن غيره، ويجعل زبائنه الثابتين يعودون إليه مراراً وتكراراً. بالإضافة إلى ذلك، يقدم المطعم ساندويتش البيض بالطماطم (الشكشوكة) وعصير العبادي الشهير، الذي أصبح جزءاً من هوية الكافتيريا. هذه التنوع في الأطعمة الشعبية في دبي يجذب شريحة واسعة من الزبائن.
التحديات والتطورات: رحلة مستمرة
لم تخلُ رحلة “رويال تشيلز” من التحديات. بسبب مشروعات التطوير في منطقة زعبيل، اضطر المكان إلى تغيير موقعه ثلاث مرات خلال 12 عاماً. ولكن في كل مرة، كان زبائنه يتتبعون خطواتهم، متمسكين بمذاقاتهم الفريدة.
اليوم، يعمل في الكافتيريا حوالي 12 عاملاً، يفتحون أبوابها في السادسة صباحاً ويغلقونها عند منتصف الليل. وقد توسعت قائمة الطعام لتشمل أصنافاً جديدة، ولكن لفة النقانق بالصمون أو البراتا مع الجبن وشيبس عمان والدقوس لا تزال نجمة الطلبات بلا منازع.
إرث عائلي وذاكرة جماعية
بعد تقدمه في العمر، اختار مؤسس المطعم العودة للعيش في مدينته كيرلا، ولكنه لا يزال متعلقاً بالمكان وأهله، وحريصاً على السؤال عن أخبار محله وزبائنه. يؤكد شاهد: “خبرته في هذه المهنة تقارب اليوم 46 عاماً، وذكرياته مع المكان حافلة بالتفاصيل والتحديات والنجاحات”.
“رويال تشيلز” ليس مجرد مشروع تجاري، بل هو محطة فريدة من تاريخ العائلة، وذاكرة منطقة زعبيل عموماً. يشهد شاهد بوللتايكوني على شعبية المكان التي لم يروجوا لها يوماً بإعلان مدفوع، بل بزبائن المحل الدائمين الذين يمثلون تنوعاً في الجنسيات والأعمار. يجتمع الجميع أمام هذا الباب الصغير، ليرووا قصصهم مع المكان وهم صغار، وعودتهم إليه مجدداً رفقة الأبناء. هذا هو سر النجاح الحقيقي، وهو ما يجعل “رويال تشيلز” جزءاً لا يتجزأ من نسيج دبي الاجتماعي والثقافي.
