ارتبط اسم صانع الأفلام الإنجليزي كريستوفر نولان بالأصالة السينمائية والأسلوب العبقري في السرد. لم يصنع نولان فيلماً إلا وأعاد تعريف الصنف السينمائي الذي يعود إليه الفيلم.
ففي «ميمينتو» و«انسومنيا» أعاد نولان تعريف الأفلام البوليسية «نوار»، وفي ثلاثية «باتمان» أعاد تعريف أفلام القصص المصورة بإدخال عنصر الواقعية إليها. وفي «إنسبشن» أعاد تعريف أفلام السرقة، وفي «إنترستيلار» و«تينيت» أعاد تعريف الخيال العلمي، وفي «دنكيرك» أعاد تعريف أفلام الحرب العالمية الثانية.
في كل مرة يصنع نولان فيلماً يعرض فكرة بطريقة جديدة. وبعد الفيلم الجريء والمجنون «تينيت» والذي قد لا يفهم أحد منه شيئاً لشدة تعقيده وجنونه، فإن نولان يعود اليوم بفيلم Oppenheimer، و«أوبنهايمر» عن قصة مخترع القنبلة الذرية التي ألقيت على اليابان في الحرب العالمية الثانية.
في «أوبنهايمر» يعمل نولان في صنف الدراما والسير الذاتية، وهو صنف عانى الكثير من الرتابة وإعادة المعادلة عبر السنوات الماضية، لكن هذه المرة لن نقول إن نولان أعاد تعريفه، فما يراه البعض تحفة نراه نحن فيلماً عادياً جداً. هذه المرة نولان لم يفعلها.
ابتعد نولان عن الأكشن والمغامرة وهو من اختصاصه وذهب باتجاه سينما الراحل ديفيد لين. ورغم كونه طويلاً جداً وغير متوازن إيقاعاً، فإن «أوبنهايمر» يحوي لحظات عظيمة وأداء رائعاً من بطل الفيلم (الأيرلندي كيليان ميرفي) والذي سيترشح حتماً في موسم الجوائز القادم.
يوظف نولان لقطات أبيض وأسود لعرض جلسة استماع في الكونغرس، وحتى الأبيض والأسود هنا لم نفهم الغرض الفني منه، وهو يعكس تفنن نولان من أجل التفنن فقط ولا نراه جزءاً عضوياً من الفيلم. فضلاً عن الموسيقى التي لا تتوقف، وحتى في المشاهد الحوارية تبدو مقحمة وتجعل الفيلم أقرب إلى فيديو ترويجي طويل وأحياناً تطغى على الحوار.
خلال الـ80 عاماً الماضية منذ أن اشتهر اسم أوبنهايمر، خرجت كتب وأفلام توثيقية شوهت أو حسنت سمعة الرجل طبقاً لمصلحة الأجندة السياسية والعسكرية الأميركية. أساساً، كان بطلاً عندما اخترع القنبلة واستخدمتها واشنطن في إيقاف الحرب العالمية الثانية.
ثم تشوهت سمعته خلال الحرب الباردة بظهور شائعات عن صلاته بالاتحاد السوفيتي. وعاش فترة كئيبة إلى أن تم تكريمه بجائزة إينريكو فيرمي عام 1963 وأعادت إليه سمعته. يعرض الفيلم هذه الجزئية من حياته ويقفز بين الماضي والحاضر بما يتناسب مع مزاج نولان.
يركز «أوبنهايمر» على ثلاث فترات من حياة عالم الفيزياء، وكل فترة تتألف من لقطات استرجاعية أو متقدمة. بالطبع بالنسبة للمشاهد فإن الطريقة تشبه لعبة أحجية تركيب القطع ولكنها الطريقة الوحيدة التي تمنع الفيلم من اتباع مسار أحداث متتالية ولا ننسى هوس نولان بالزمن وتلاعبه به في كل أفلامه.
من ناحية أخرى، فإن مسار الأحداث المتوالية هو سبب الأزمة التي تعانيها أفلام السير الذاتية. في الجزء الأول من الفيلم يوظف نولان أداة تأطير خلال مشهد جلسة استماع لجنة الطاقة الذرية عام 1954 التي ألغت التصريح الأمني لأوبنهايمر، فمن هنا ينتقل نولان إلى الماضي.
غالبية الفيلم أو الجزء الثاني منه تناول تأسيس مشروع مانهاتن والأحداث التي أدت إلى «ترينيتي» أو اختبار القنبلة في صحراء لوس ألاموس في يوليو 1945. أما الجزء الثالث وهو بالأبيض والأسود فيذهب مستقبلاً إلى عام 1959 أثناء جلسة استماع في الكونغرس لتعيين لويس ستروس (روبرت دوني جي آر) رئيس مفوضية الطاقة الذرية في منصب وزير التجارة، وستروس هو المسؤول عن تشويه سمعة أوبنهايمر وشيطنته.
لا يعير نولان اهتماماً لعلاقات أوبنهايمر النسائية، وتحديداً علاقته بزوجته كيتي (إيميلي بلنت) وعلاقته بعشيقته جين تاتلوك (فلورينس بيو)، فالعلاقتان غير ناضجتين في النص وكان بالإمكان أن تخدما النص لو طورتا بشكل سليم. الشيء نفسه بالنسبة للعلماء الذين شاركوا في مشروع مانهاتن أو القنبلة الذرية فإنهم لم يأخذوا حيزاً مناسباً من الفيلم.
درة تاج نولان في هذا الفيلم والمشهد الذي يعكس نولان في أفضل لحظاته هو الـ20 دقيقة التي تسبق التفجير التجريبي (ترينيتي). هنا يظهر نولان الذي نعرفه في مشهد يحبس الأنفاس وهو يبني لحظات التشويق التي تسبق لحظة الذروة أي الانفجار نفسه.
يكتفي نولان بالتفجير التجريبي ثم نسمع أن القنبلة ألقيت على اليابان دون تخصيص مشهد لذلك. ثم تدخل الشخصية الرئيسة في عذاب تأنيب الضمير متبوعاً بخروج صوتها المعارض لخطة السياسيين والعسكر بتطوير القنبلة وأسلحة الدمار الشامل ثم تهميشها وشيطنتها وهي قصة غدت كليشيه لكل من يعارض واشنطن داخلياً في قرارات حروبها.
تتطور شخصية أوبنهايمر في مسار الفيلم، فنراه في البداية مُنظّراً ثم راغباً في اختبار نظريته ميدانياً. وعندما يجبر على مواجهة عواقب القنبلة وعالم ما بعد الذرة، فإنه يبدأ برؤية كوابيس في يقظته ومن هنا يستوعب تحذيرات العالم ألبرت آينشتاين (توم كونتي) ونيلز بور (كينيث برانا).
ويبدو أن نولان يختار نجومه بعناية ومنهم من تعاون معه سابقاً، فنرى مات ديمون في دور ضابط جيش صارم كاد يسرق المشاهد التي جمعته مع ميرفي. ويظهر روبرت دوني تحت طبقة ثقيلة من الميك أب تجعله كبيراً في السن ودوني تحديداً هو شرير الفيلم أو الأقرب إلى هذا الوصف وهو رائع في دور الشرير. وأما أدوار الكاميو – وتعني مشهداً واحداً فقط – فهي من نصيب فائزي الأوسكار كيسي أفليك في دور بوريس باش وغاري أولدمان في دور الرئيس الأميركي هاري ترومان.
أوبنهايمر قد يعيد صنف ملاحم السير الذاتية إلى الواجهة مجدداً لو حقق نجاحاً هائلاً في شباك التذاكر. ملاحم مثل غاندي 1982 وPatton عام 1970 ولورانس العرب عام 1962. وهي أفلام تروي قصص حياة شخصيات تاريخية مثيرة للجدل دون الالتفات إلى الفترة الزمنية للفيلم: ثلاث ساعات أو أكثر. لكن هذه المدة من الحوارات المتواصلة قد تكون مضجرة للبعض خصوصاً دون الأكشن أو فترة استراحة في المنتصف.
أوبنهايمر إشارة إلى أن نولان يرفض تصنيفه كمخرج أكشن أو خيال علمي، وهو جريء ويخرج من منطقة الأمان بثقة تامة، لكن ذلك لا يعني أن «أوبنهايمر» أفضل ما صنع. «أوبنهايمر» حتماً يضعف أمام كلاسيكيات مثل «فارس الظلام» و«إنسبشن» و«إنترستيلار» و«دنكيرك» و«تينيت». لكنه قد يتفوق على الكلاسيكيات عندما يفوز بترشيحات الأوسكار.
منافسة هذا الأسبوع
يُنتظر أن تكون هناك منافسة مرتقبة هذا الأسبوع على صدارة شباك التذاكر الأميركي بين «أوبنهايمر» و«باربي». «أوبنهايمر» أول فيلم لنولان مع استوديوهات يونيفرسال بعد خصامه الشهير مع استوديوهات وورنر بسبب فيلم «تينيت».
و«باربي» من توزيع وورنر التي تعمدت طرحه مع «أوبنهايمر» لإغاظة نولان. وفي مقابلة مع صحيفة التلغراف البريطانية قال نولان إنه لا يستبعد تعمد وورنر فعل هذه الحركة.
لم يصنع نولان فيلماً إلا وأعاد تعريف الصنف السينمائي الذي يعود إليه الفيلم.
الموسيقى التي لا تتوقف حتى في المشاهد الحوارية تبدو مقحمة وتجعل الفيلم أقرب إلى فيديو ترويجي طويل.