بعد أكثر من خمسة وعشرين عامًا من البحث السريري الدقيق، ظهر اكتشاف طبي واعد قد يغير الطريقة التي نفهم بها “العقم مجهول السبب” لدى النساء. نشرت نتائج هذه الدراسة الهامة، التي شملت 372 امرأة من 23 دولة مختلفة، في ديسمبر 2025 في المجلة الدولية لأمراض النساء والتوليد (International Journal of Gynecology & Obstetrics). يقدم البروفيسور موسى الكردي، رائد هذا البحث، مقاربة جديدة ومبتكرة لعلاج هذه المشكلة المعقدة.
البروفيسور موسى الكردي: ريادة في علاج العقم
البروفيسور موسى الكردي، طبيب وباحث بريطاني من أصل سوري، وأستاذ متخصص في أمراض النساء والعقم، يربط عمله الأكاديمي بين جامعتي كمبردج ودمشق. في حوار حصري، شارك البروفيسور الكردي رؤيته حول التقنية الجراحية الجديدة التي طورها، والتي تعيد التركيز على أهمية الفهم التشريحي الوظيفي قبل اللجوء إلى تقنيات الإخصاب المساعد الأكثر تعقيدًا.
من أين جاءت فكرة هذا النهج الجديد؟
يرجع البروفيسور الكردي الفضل في هذه الفكرة إلى سنوات طويلة من الملاحظات السريرية في العيادات والمراكز الطبية في كل من الشرق الأوسط وأوروبا. أثناء تدريبه وتعاوناته الأكاديمية في المملكة المتحدة، تعلم مبدأً أساسيًا: “لا تبدأ بالحل المعقد قبل أن تعيد طرح السؤال البسيط.” هذا السؤال البسيط، “لماذا لا يحدث الحمل على الرغم من أن جميع الفحوصات تبدو طبيعية؟”، كان نقطة الانطلاق لإعادة تقييم الأسباب المحتملة للعقم.
فهم “العقم مجهول السبب” بشكل أعمق
لطالما شكل العقم مجهول السبب تحديًا كبيرًا للأطباء والمرضى على حد سواء. تصف هذه الحالة الأزواج الذين لا ينجحون في الحمل بعد عام من المحاولة، على الرغم من عدم وجود أي سبب واضح للعقم. يشرح البروفيسور الكردي أن الدراسة كشفت عن نمط متكرر لدى العديد من النساء المصنفات ضمن هذه الفئة: فحوصات هرمونية طبيعية، دورات إباضة منتظمة، وأنابيب فالوب سليمة من الناحية الشكلية، ومع ذلك، لا يحدث الحمل.
بعد سنوات من المراقبة الدقيقة، توصل الفريق إلى استنتاج مفاده أن المشكلة لا تكمن في جودة البويضة أو الهرمونات أو شكل الأنابيب، بل في العلاقة المكانية بين الأعضاء التناسلية. في بعض الحالات، تكون قناة فالوب بعيدة جدًا عن موضع خروج البويضة، مما يمنعها من التقاطها في اللحظة الحاسمة، على الرغم من أن صور الأشعة والفحوصات التقليدية لا تظهر أي مشكلة. غالبًا ما يركز الطب الحديث على نتائج التحاليل، متجاهلاً العوامل الوظيفية التي يصعب قياسها. قد يكون الأنبوب سليمًا، لكنه لا يعمل بكفاءة إذا لم يكن في الموضع الصحيح، وهذا ما يؤدي إلى تصنيفه خطأً على أنه عقم غير مفسر.
تقنية جراحية جديدة: تصحيح تشريحي لاستعادة الوظيفة
تعتمد التقنية الجديدة التي طورها البروفيسور الكردي على إعادة تموضع الرحم بدقة إلى وضعه الأمامي الطبيعي. بالإضافة إلى ذلك، يتم إنزال المبيضين وقناتي فالوب إلى موضع أقرب لقاع الحوض، مما يسمح للأنابيب باستعادة وظيفتها الفسيولوجية الطبيعية في التقاط البويضة بعد الإباضة.
هذه المقاربة تستند إلى مبادئ تشريحية كلاسيكية يتم تدريسها في كليات الطب البريطانية، ولكنها طبقت سريريًا بشكل منهجي وطويل الأمد، مع تتبع النتائج على مدى سنوات. الهدف هو تحسين البيئة التشريحية الداخلية لزيادة فرص الحمل الطبيعي.
نتائج الدراسة: نسب حمل مبشرة
أظهرت نتائج الدراسة نسب حمل ملحوظة:
- 87% لدى السيدات السليمات.
- 56% لدى النساء اللاتي يعانين من ألياف رحمية، أو بطانة رحم مهاجرة، أو التصاقات حوضية.
يصف البروفيسور الكردي هذه النتائج بأنها “أفضل بكثير مما نشهده في محاولات الإخصاب المساعد المتكررة، خاصةً لدى النساء فوق سن الأربعين أو اللاتي لديهن تاريخ طويل من فشل أطفال الأنابيب.” هذه النتائج تشير إلى أن التقنية الجديدة قد تكون خيارًا فعالًا للنساء اللاتي يعانين من صعوبة الحمل بسبب مشاكل تشريحية وظيفية.
دور الإخصاب المساعد في ظل التقنية الجديدة
يؤكد البروفيسور الكردي أن هذه التقنية لا تهدف إلى استبدال الإخصاب المساعد، بل إلى إعادة ترتيب أولويات القرار الطبي. يطرح سؤالاً هامًا: “هل استنفدنا حقًا جميع الإمكانيات التي يمكن أن يحققها الجسم بشكل طبيعي؟”
في المدرسة الطبية البريطانية، يتم تعليم الأطباء بعدم اللجوء إلى المختبر مباشرةً قبل التأكد من أن البيئة التشريحية والوظيفية داخل الجسم مهيأة بشكل طبيعي للحمل. تهدف هذه التقنية إلى منح الجسم فرصة عادلة أولاً، وقد تقلل من الحاجة إلى تدخلات معقدة، أو تزيد من فرص نجاح الإخصاب المساعد في الحالات التي لا يمكن فيها تحقيق الحمل بشكل طبيعي. علاج العقم أصبح الآن أكثر شمولية.
فريق بحثي دولي وتعاون علمي
تم تطوير ونشر هذه التقنية من قبل فريق علمي متعدد التخصصات، يجمع بين الخبرة السريرية في الشرق الأوسط والتكوين الأكاديمي في أوروبا وبريطانيا. ضم الفريق الدكتور أشرف زرقان، طبيب وباحث بريطاني من أصل سوري، متخصص في الأبحاث السريرية المتعلقة بالعقم، والبروفيسور أحمد خطاب، باحث بريطاني من أصل فلسطيني، له إسهامات علمية في مجال الخصوبة والبيولوجيا الإنجابية.
هذا التنوع الأكاديمي والجغرافي يعكس أن الدراسة لم تكن مجرد جهد محلي، بل كانت نتاج تعاون علمي عابر للحدود، يجمع بين المنهجية البريطانية الصارمة والخبرة السريرية المتراكمة في الشرق الأوسط. وهذا ما ساهم في قبول البحث ونشره في مجلة دولية مرموقة تصدر عن دار النشر العالمية “Wiley”.
في الختام، لا يقدم هذا الإنجاز تقنية جراحية جديدة فحسب، بل يعيد فتح ملف العقم مجهول السبب من منظور علمي أكثر دقة وشمولية. من خلال تبسيط السؤال والتركيز على أساسيات التشريح والوظيفة، يقدم البروفيسور موسى الكردي نهجًا واعدًا يمكن أن يساعد العديد من النساء على تحقيق حلم الأمومة. هذه التقنية تمثل خطوة مهمة نحو فهم أعمق لعمليات الإنجاب وتقديم حلول أكثر فعالية للمرضى.