تنتشر الجزيئات البلاستيكية الدقيقة في بيئتنا بشكل متزايد، مما يثير قلقًا بالغًا بشأن صحة الإنسان. دراسة حديثة أظهرت ارتباطًا مقلقًا بين التعرض لهذه الجزيئات وتطور أمراض القلب، خاصةً لدى الرجال. هذه الجسيمات، التي لا يتجاوز حجمها بضعة مليمترات، موجودة في كل مكان حولنا – في الأطعمة التي نتناولها، والمياه التي نشربها، وحتى الهواء الذي نتنفسه. وتشير الأبحاث إلى أنها لا تقتصر على الدخول إلى مجرى الدم فحسب، بل وتستقر أيضًا في أعضائنا الحيوية، مما يفتح الباب أمام سلسلة من المشاكل الصحية المحتملة.
ما هي الجزيئات البلاستيكية الدقيقة وكيف تصل إلى أجسامنا؟
الجزيئات البلاستيكية الدقيقة، والمعروفة أيضًا بالـ microplastics، هي قطع صغيرة جدًا من البلاستيك تنتج عن تحلل المواد البلاستيكية الأكبر حجمًا، مثل الزجاجات والأكياس والملابس الاصطناعية. تتراوح أحجامها بين جزء من ألف من المليمتر إلى خمسة مليمترات. تنتج هذه الجزيئات أيضًا عن عمليات صناعية مختلفة، مثل تقشير الأسطح البلاستيكية أو غسل الأقمشة الاصطناعية.
تصل هذه الجزيئات إلى أجسامنا عبر مسارات متعددة. أحد أهم هذه المسارات هو الغذاء، حيث تتواجد في المأكولات البحرية، والملح، وحتى في بعض الفواكه والخضروات. كما أن مياه الشرب المعبأة والمياه الصنبور تحتوي على كميات متفاوتة من الجزيئات البلاستيكية الدقيقة. بالإضافة إلى ذلك، يمكن استنشاق هذه الجزيئات من خلال الهواء الملوث، خاصةً في المناطق الصناعية أو بالقرب من مكبات النفايات.
الدراسة الجديدة وتأثير الجزيئات البلاستيكية الدقيقة على القلب
ركزت الدراسة التي أجريت في جامعة كاليفورنيا على فهم العلاقة المباشرة بين التعرض للجزيئات البلاستيكية الدقيقة وتطور أمراض القلب والأوعية الدموية. لم يكن الهدف فقط هو تحديد وجود هذه الجزيئات في الجسم، بل أيضًا تحديد ما إذا كانت تساهم بشكل فعال في تلف الشرايين أم أن وجودها مجرد صدفة.
استخدم الباحثون فئرانًا مُعدلة وراثيًا لتكون عرضة لتصلب الشرايين، وهي حالة تتميز بتراكم اللويحات في جدران الشرايين. تم تقسيم الفئران إلى مجموعتين: مجموعة تلقت نظامًا غذائيًا يحتوي على جزيئات بلاستيكية دقيقة، ومجموعة أخرى تلقت نظامًا غذائيًا عاديًا. تم اختيار جرعة الجزيئات البلاستيكية الدقيقة لتكون مماثلة للكميات التي قد يتعرض لها الإنسان من خلال مصادر ملوثة.
نتائج الدراسة: اختلافات بين الذكور والإناث
أظهرت النتائج أن التعرض للجزيئات البلاستيكية الدقيقة أدى إلى تسريع تصلب الشرايين بشكل ملحوظ لدى ذكور الفئران. زاد تراكم اللويحات في الشريان الرئيسي المتصل بالقلب بنسبة 63%، بينما زاد في الشريان العضدي الرأسي بأكثر من 7 أضعاف.
على النقيض من ذلك، لم تظهر إناث الفئران أي زيادة ملحوظة في تكوّن اللويحات بعد التعرض لنفس الظروف. هذا الاختلاف بين الجنسين يثير تساؤلات مهمة حول الآليات البيولوجية التي قد تجعل الذكور أكثر عرضة لتأثيرات الجزيئات البلاستيكية الدقيقة على صحة القلب.
كيف تؤثر الجزيئات البلاستيكية الدقيقة على الشرايين؟
اكتشف الباحثون أن الجزيئات البلاستيكية الدقيقة تتداخل مع وظائف الخلايا في الشرايين، مما يؤدي إلى خلل في توازنها. الخلايا البطانية، التي تبطن الأوعية الدموية من الداخل، كانت الأكثر تأثرًا.
يعتقد الدكتور تشانغ تشنغ تشو، مؤلف الدراسة، أن الخلايا البطانية هي أول ما يتعرض للجزيئات البلاستيكية الدقيقة المنتشرة في الدم. وبالتالي، فإن خلل وظيفتها يمكن أن يؤدي إلى بدء الالتهاب وتكوّن اللويحات، وهما علامتان رئيسيتان على تصلب الشرايين وأمراض القلب.
بالإضافة إلى ذلك، قد تساهم الجزيئات البلاستيكية الدقيقة في زيادة الإجهاد التأكسدي في الخلايا، مما يؤدي إلى تلفها وزيادة خطر الإصابة بأمراض القلب.
الآثار الصحية الأخرى للجزيئات البلاستيكية الدقيقة
لا تقتصر تأثيرات الجزيئات البلاستيكية الدقيقة على صحة القلب فقط. تشير الأبحاث إلى أنها قد تساهم في مجموعة واسعة من المشاكل الصحية الأخرى، بما في ذلك:
- اضطرابات الهرمونات: يمكن للجزيئات البلاستيكية الدقيقة أن تحاكي الهرمونات في الجسم، مما يعطل وظائفها الطبيعية.
- ضعف القدرة على الإنجاب: قد تؤثر الجزيئات البلاستيكية الدقيقة على جودة الحيوانات المنوية والبويضات.
- تلف الجهاز العصبي: يمكن للجزيئات البلاستيكية الدقيقة أن تتراكم في الدماغ وتسبب تلفًا عصبيًا.
- السرطان: تشير بعض الدراسات إلى أن التعرض للجزيئات البلاستيكية الدقيقة قد يزيد من خطر الإصابة ببعض أنواع السرطان.
الحد من التعرض للجزيئات البلاستيكية الدقيقة: ما الذي يمكننا فعله؟
نظرًا لانتشار الجزيئات البلاستيكية الدقيقة وصعوبة تجنبها تمامًا، فإن تقليل التعرض لها والحفاظ على صحة القلب والأوعية الدموية أمر بالغ الأهمية. إليك بعض النصائح التي يمكن أن تساعدك في ذلك:
- تقليل استهلاك البلاستيك: استخدم بدائل قابلة لإعادة الاستخدام للزجاجات البلاستيكية والأكياس والأدوات المائدة.
- اختيار الأطعمة بعناية: قلل من تناول المأكولات البحرية، واختر المنتجات الطازجة وغير المعبأة قدر الإمكان.
- شرب المياه المفلترة: استخدم مرشحًا للمياه لإزالة الجزيئات البلاستيكية الدقيقة.
- اتباع نظام غذائي صحي: ركز على تناول الفواكه والخضروات والحبوب الكاملة والبروتينات الخالية من الدهون.
- ممارسة الرياضة بانتظام: تساعد التمارين الرياضية على تحسين صحة القلب والأوعية الدموية.
- إدارة عوامل الخطر: حافظ على وزن صحي، وتجنب التدخين، وتحكم في مستويات الكوليسترول والسكر في الدم.
في الختام، تشير الأدلة المتزايدة إلى أن الجزيئات البلاستيكية الدقيقة تشكل تهديدًا حقيقيًا لصحة الإنسان، وخاصةً صحة القلب. من الضروري إجراء المزيد من البحوث لفهم الآليات الدقيقة التي تؤثر بها هذه الجزيئات على أجسامنا، وتطوير استراتيجيات فعالة للحد من التعرض لها وحماية صحتنا. الوعي بهذه المخاطر واتخاذ خطوات استباقية لتقليل التعرض للجزيئات البلاستيكية الدقيقة هو مفتاح الحفاظ على صحة قلب قوية وحياة طويلة.