على مدار عقود، ظلت هندسة المناخ – أو التلاعب التكنولوجي المتعمد بمناخ الأرض لمواجهة الاحتباس الحراري – موضوعًا مثيرًا للجدل، محاطًا بالشكوك والتحذيرات. لطالما تعامل المجتمع العلمي مع هذه الفكرة بحذر شديد، بسبب عدم اليقين بشأن فعاليتها واحتمال عواقب وخيمة غير مقصودة. لكن مع تزايد حدة التغيرات المناخية، يلوح في الأفق تحول في هذا الموقف. هذا المقال يستكشف التطورات الأخيرة في مجال هندسة المناخ، المخاطر المحتملة، والجدل المتصاعد حول البحث والتطبيق.
تحول في النظرة إلى هندسة المناخ: من الشك إلى الضرورة
لطالما كانت هندسة المناخ بمثابة خط أحمر بالنسبة للعديد من العلماء، معتبرين إياها حلاً يائسًا وغير مضمون. لكن الوضع الحالي، الذي يتسم بتفاقم الكوارث الطبيعية وارتفاع temperatures بشكل غير مسبوق، بدأ يدفع البعض إلى إعادة النظر في هذا الموقف. في سبتمبر الماضي، نشر أكثر من 40 خبيرًا في علوم المناخ ورقة بحثية مهمة في دورية Frontiers in Science، أثارت المزيد من النقاش حول هذا الموضوع. هذه الورقة البحثية، بالإضافة إلى ردود فعل العلماء الآخرين، شكلت نقطة تحول في فهم الجدل الدائر حول التدخل في أنظمة الأرض.
المخاطر الكامنة في هندسة المناخ الشمسية
أحد أكثر جوانب هندسة المناخ إثارة للقلق هو فكرة “الهندسة المناخية الشمسية”، والتي تتضمن محاولة عكس ضوء الشمس للحد من ارتفاع درجة الحرارة. تحذر الدراسة المنشورة في Frontiers in Science من أن هذه التقنية، على وجه التحديد رش الهباء الجوي العاكس في طبقة الستراتوسفير، قد تؤدي إلى تغييرات كبيرة في الدورة الجوية، مما يتسبب في ارتفاع temperatures في فصول الشتاء في شمال أوراسيا، بالإضافة إلى اضطرابات مناخية أخرى.
تصورات الخيال العلمي وتحذيرات متكررة
تجسدت هذه المخاوف في العديد من الأعمال الفنية. فيلم “مثقب الثلج” (Snowpiercer) قدم رؤية قاتمة لمستقبل الأرض بعد فشل تجربة هندسة مناخية، مما أدى إلى انخفاض كارثي في درجة الحرارة. وبالمثل، تستكشف رواية “وزارة المستقبل” (The Ministry for the Future) لكيم ستانلي روبنسون سيناريو تلجأ فيه الحكومات إلى هندسة المناخ بدافع اليأس. الأكثر أهمية في تصور روبنسون هو التحذير من أن استخدام تكنولوجيا غير مفهومة بشكل كامل على نطاق واسع قد يؤدي إلى نتائج كارثية لا يمكن التنبؤ بها.
ضرورة أبحاث التدخل المناخي: وجهة نظر متنامية
على الرغم من المخاوف المبررة، يرى عدد متزايد من العلماء أن أبحاث هندسة المناخ أصبحت ضرورية. فقد أطلق أكثر من 120 عالمًا بيانًا مضادًا للورقة البحثية المذكورة، مؤكدين أن البحث في مجال التدخل المناخي هو الآن “ضروري للغاية”. فيليب دافي، كبير المستشارين العلميين السابق في إدارة بايدن، أوضح أن تسارع التغيرات المناخية يعني أن التخفيف من الانبعاثات وحده لن يكون كافيًا لتجنب ارتفاع temperatures الخطير، وأن بعض التدخلات المناخية قد تكون ضرورية كإجراءات تكميلية.
مقترحات هندسة المناخ: من تعزيز السحب إلى إزالة الكربون
تشمل هندسة المناخ مجموعة واسعة من التدخلات المحتملة. تتضمن بعض المقترحات تعزيز سطوع السحب فوق المحيطات لزيادة انعكاس ضوء الشمس، أو زيادة انعكاسية المناطق القطبية. كما تحظى تقنيات إزالة الكربون، التي تهدف إلى التقاط ثاني أكسيد الكربون من الغلاف الجوي، بقبول واسع كجزء من استراتيجيات التخفيف من آثار التغيرات المناخية. لكن إدارة الإشعاع الشمسي، من خلال حقن جزيئات الهباء الجوي في طبقة الستراتوسفير، تظل الأكثر إثارة للجدل.
الدعم المتزايد: من المليارديرات إلى الشركات الناشئة
ما هو ملحوظ هو أن هذه الأفكار، التي كانت تعتبر هامشية في السابق، بدأت تجذب الدعم المؤسسي والتجاري والخيري. مليارديرات مثل بيتر ثيل وإيلون ماسك أبدوا اهتمامهم، كما أن شركات ناشئة مثل “Make Sunsets” بدأت تجري تجارب صغيرة وغير مصرح بها.
الجدل السياسي والمعارضة المتزايدة
على الرغم من الدعم العلمي المتزايد، تواجه هندسة المناخ معارضة سياسية قوية، خاصة في الولايات المتحدة. فمن جهة، يرى النقاد التقدميون أن المجتمع يجب أن يركز حصريًا على وقف انبعاثات الكربون وتقليل استهلاك الطاقة، ويرفضون الحلول التكنولوجية باعتبارها مجرد عوامل تشتيت. ومن جهة أخرى، يقف اليمين السياسي في وجه هندسة المناخ بسبب نظريات المؤامرة، مثل فكرة “الخطوط الكيميائية” التي تزعم أن الطائرات ترش مواد كيميائية للتحكم في العقول. وقد تحولت هذه المعارضة إلى سياسة رسمية في بعض الولايات، حيث تم تقديم مشروعات قوانين لحظر أبحاث هندسة المناخ.
الدول النامية وبين خيارات التكيف
في المقابل، تظهر الدول النامية انفتاحًا أكبر على استكشاف خيارات هندسة المناخ، كونها أكثر عرضة للتأثيرات المناخية المدمرة. في منتدى باريس للسلام، سلط وزير خارجية غانا الضوء على الأبحاث الجارية في بلاده وماليزيا والمكسيك وجنوب أفريقيا في مجال إدارة الإشعاع الشمسي، واصفًا إياها بأنها ضرورية لضمان مستقبلها المناخي.
الخلاصة: الموازنة بين المخاطر والأمل
إن المعضلة الأساسية التي نواجهها هي أن البشرية تعاني ضيق الوقت، لكنها تفتقر إلى المعرفة الكافية لتحديد ما إذا كانت هندسة المناخ يجب أن تكون جزءًا من استراتيجية مناخية مسؤولة. حظر الأبحاث يهدر الخيارات المحتملة، بينما المضي قدمًا دون تفكير يعرضنا لمخاطر كارثية. لذلك، فإن السبيل العقلاني الوحيد هو السماح بإجراء تحقيق منهجي وشفاف في جدوى وسلامة وحوكمة هندسة المناخ. فقط من خلال البحث الدقيق والمدروس يمكننا أن نأمل في تطوير حلول فعالة ومستدامة لمواجهة تحدي تغير المناخ.