يشكل الاكتئاب تحديًا صحيًا عالميًا، وتزداد المخاوف بشأن ارتباطه المحتمل بزيادة خطر الإصابة بـ الخرف في مراحل لاحقة من الحياة. على الرغم من أن هذا الارتباط ليس جديدًا، إلا أن الأبحاث الحديثة بدأت في تحديد الأعراض المحددة للاكتئاب التي قد تكون أكثر ارتباطًا بهذا الخطر المتزايد. هذه الاكتشافات تفتح الباب أمام استراتيجيات وقائية مبكرة، وربما حتى تدخلات غذائية بسيطة مثل اتباع حمية البحر الأبيض المتوسط، لتقليل هذا الخطر.
العلاقة بين الاكتئاب والخرف: ما الذي نعرفه؟
لطالما أشار الخبراء إلى وجود صلة بين الاكتئاب والخرف، لكن الآلية الدقيقة وراء هذه العلاقة ظلت غير واضحة. هل الاكتئاب مجرد عامل خطر، أم أنه يساهم بشكل مباشر في تطور الخرف؟ هذا السؤال هو محور العديد من الدراسات الجارية. الخرف ليس مرضًا واحدًا، بل هو مصطلح شامل لمجموعة من الأعراض التي تؤثر على الذاكرة والتفكير والسلوك. الاكتئاب، من ناحية أخرى، هو اضطراب مزاجي يتميز بالشعور المستمر بالحزن وفقدان الاهتمام.
دراسة “ذا لانسيت للطب النفسي”: أعراض الاكتئاب الأكثر خطورة
نشرت مجلة “ذا لانسيت للطب النفسي” مؤخرًا دراسة مهمة كشفت عن أن ستة أعراض محددة للاكتئاب في منتصف العمر ترتبط بزيادة خطر الإصابة بالخرف بنسبة تصل إلى 50%. شملت الدراسة بيانات أكثر من 5800 شخص شاركوا في دراسة وايتهول الثانية، وهي دراسة طويلة الأمد بدأت عام 1985.
تمت متابعة المشاركين، الذين عانوا جميعًا من نوبات اكتئاب مسجلة بين عامي 1997 و 1999، لمدة 25 عامًا. أظهرت النتائج أن الإصابة بالاكتئاب في منتصف العمر تزيد من احتمالية الإصابة بالخرف بنسبة 27% بشكل عام. ولكن، الأهم من ذلك، أن هذه الزيادة في المخاطر كانت مرتبطة بشكل خاص بستة عوامل رئيسية.
الأعراض الستة التي تزيد من خطر الخرف
- فقدان الثقة بالنفس: الشعور المستمر بعدم الكفاءة وعدم القدرة على تحقيق الأهداف.
- عدم القدرة على مواجهة المشكلات: صعوبة في اتخاذ القرارات وحل المشكلات اليومية.
- انعدام الشعور بالدفء والمودة تجاه الآخرين: التباعد العاطفي عن العائلة والأصدقاء.
- الشعور بالتوتر والقلق الدائمين: حالة مستمرة من القلق والاضطراب.
- عدم الرضا عن أداء المهام: الشعور بالإحباط وعدم الرضا عن العمل أو الأنشطة الأخرى.
- صعوبة التركيز: تشتت الانتباه وعدم القدرة على الحفاظ على التركيز.
وفقًا للدكتور فيليب فرانك، المؤلف الرئيسي للدراسة، فإن هذه النتائج تشير إلى أن الخطر مرتبط بمجموعة محددة من أعراض الاكتئاب، وليس بالاكتئاب ككل. هذا النهج القائم على الأعراض يوفر فهمًا أعمق للأشخاص الأكثر عرضة للخطر، حتى قبل عقود من ظهور أعراض الخرف.
هل يعني الاكتئاب حتمية الإصابة بالخرف؟
من المهم التأكيد على أن الإصابة بـ الاكتئاب لا تعني بالضرورة الإصابة بـ الخرف. الدراسة أظهرت ارتباطًا، وليس علاقة سببية. ويؤكد الباحثون على الحاجة إلى مزيد من الأبحاث لتوضيح هذه العلاقة بشكل كامل.
الدكتور ريتشارد أوكلي، المدير المساعد للبحوث والابتكار في جمعية ألزهايمر، يوضح أن العلاقة بين الخرف و الاكتئاب معقدة. ويشير إلى أن هذه الدراسة الرصدية الجديدة هي خطوة مهمة نحو فهم كيفية ترابط هذين الاضطرابين، لكنه يؤكد أيضًا على ضرورة إجراء المزيد من الأبحاث لتحديد ما إذا كانت هذه الأعراض الستة تنطبق على نطاق أوسع من السكان، بما في ذلك النساء والأقليات العرقية. ويشدد على أنه ليس كل من يعاني من الاكتئاب سيصاب بـ الخرف، وليس كل من يصاب بـ الخرف سيعاني من الاكتئاب.
الوقاية من الخرف: دور نمط الحياة والتغذية
على الرغم من أن هذه الدراسة لا تقدم حلولًا نهائية، إلا أنها تسلط الضوء على أهمية الانتباه إلى الصحة العقلية في منتصف العمر. التعامل المبكر مع أعراض الاكتئاب، وخاصة تلك المحددة في الدراسة، قد يكون له دور في تقليل خطر الإصابة بـ الخرف في المستقبل.
بالإضافة إلى ذلك، تشير الأبحاث إلى أن اتباع نمط حياة صحي، بما في ذلك ممارسة الرياضة بانتظام، والحفاظ على وزن صحي، وتناول نظام غذائي متوازن، يمكن أن يساعد في حماية صحة الدماغ. وقد أظهرت بعض الدراسات أن اتباع حمية البحر الأبيض المتوسط، الغنية بالأسماك وزيت الزيتون والفواكه والخضروات، قد يكون له تأثير وقائي على الخرف.
الخلاصة: نحو فهم أفضل للوقاية من الخرف
تؤكد الأبحاث الحديثة على أهمية فهم العلاقة المعقدة بين الاكتئاب و الخرف. إن تحديد الأعراض المحددة للاكتئاب التي تزيد من خطر الإصابة بالخرف يمثل خطوة مهمة نحو تطوير استراتيجيات وقائية مبكرة. من خلال الانتباه إلى الصحة العقلية، واعتماد نمط حياة صحي، قد نتمكن من تقليل خطر الإصابة بهذا المرض المدمر. نحث القراء على استشارة أطبائهم لمناقشة أي مخاوف بشأن صحتهم العقلية أو خطر الإصابة بالخرف. المتابعة المنتظمة والتدخل المبكر هما المفتاح للحفاظ على صحة الدماغ على المدى الطويل.