في خضم التحديات الجيوسياسية المتزايدة والضغوط الاقتصادية المتلاحقة، شهدت كندا تحولاً مفاجئاً في قيادتها، مع صعود مارك كارني إلى منصب رئيس الوزراء. لم يكن هذا الاختيار مجرد تغيير في الوجوه، بل كان بمثابة رسالة واضحة من الشعب الكندي حول نوع القيادة التي يحتاجها في مواجهة سياسات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الحمائية وتأثيراتها على سيادة كندا واقتصادها. يُركز هذا المقال على استراتيجيات كارني الاقتصادية والسياسية، وتأثير عودة ترامب على المشهد الكندي، وكيف يهدف كارني إلى تعزيز مكانة كندا في عالم متغير.
عودة ترامب وتأثيرها على كندا: الحاجة إلى قيادة جديدة
كانت إعادة انتخاب دونالد ترامب بمثابة صدمة للعديد من الكنديين، حيث أثارت الذكريات المؤلمة للسنوات التي سبقت ذلك، والتي تميزت بالتوترات التجارية والشكوك حول التزام الولايات المتحدة بحلف شمال الأطلسي “الناتو”. فرض ترامب سريعاً رسوماً جمركية على الصادرات الكندية من قطاعات حيوية مثل الصلب والألمنيوم والسيارات والطاقة والمعادن الهامة وحتى الخشب، مما هدد استقرار الاقتصاد الكندي. بالإضافة إلى ذلك، كرر ترامب انتقاداته للإنفاق الدفاعي الكندي، وشكك في مستقبل التعاون الأمني، بل وطرح مجدداً فكرة ضم كندا إلى الولايات المتحدة، وهو ما أثار غضبًا واسعًا في الأوساط الكندية.
هذه التطورات دفعت جاستن ترودو، رئيس الوزراء الليبرالي السابق، إلى اتخاذ قرار مفاجئ بعدم الترشح لفترة ولاية أخرى، خاصةً مع تراجع شعبيته وتزايد الضغوط الاقتصادية. في ظل هذه الظروف، كان من المتوقع أن يستولي المحافظون، بقيادة بيير بويليفر، على السلطة، لكن الخوف المتزايد من تكرار سيناريو ترامب دفع الليبراليين إلى البحث عن بديل قوي.
مارك كارني و السياسة الصناعية: استجابة للتحديات
في هذه اللحظة الحاسمة، برز اسم مارك كارني كمرشح واعد. ليس كارني سياسيًا تقليديًا، بل هو اقتصادي بارز تخرج من جامعة أكسفورد، وشغل مناصب قيادية رفيعة في بنك كندا وبنك إنجلترا. امتلك كارني جاذبية جدية وخبرة اقتصادية عميقة، مما جعله الخيار المفضل للكنديين الذين يبحثون عن قيادة قادرة على التعامل مع هذه التحديات المعقدة.
أحد أهم عناصر رؤية كارني هو تبني سياسة صناعية شاملة تهدف إلى تعزيز قدرة كندا الاقتصادية وتقليل اعتمادها على الولايات المتحدة. أنشأ كارني مكتبًا للمشاريع الكبرى لتسريع الإجراءات البيروقراطية وتنسيق الدعم للمشاريع التنموية الضخمة، وركز بشكل خاص على تطوير البنية التحتية. كما أطلق سلسلة من المبادرات الصناعية الجديدة مع الوعد ببرامج إضافية في المستقبل. هذا التحول نحو السياسة الصناعية يمثل استجابة مباشرة للظروف المتغيرة التي فرضها ترامب.
تعزيز الإنفاق الدفاعي والاستثمار في البنية التحتية
لم تقتصر استجابة كارني على الاقتصاد المدني فحسب، بل شملت أيضًا تعزيز القدرات العسكرية لكندا. فقد أعلن عن زيادة كبيرة في الإنفاق العسكري وأنشأ وكالة جديدة للاستثمار الدفاعي تهدف إلى تبسيط عمليات الشراء وزيادة الإنتاج المحلي في هذا القطاع. بالإضافة إلى ذلك، أطلق كارني برنامجًا طموحًا لمعالجة أزمة الإسكان في كندا، مع التركيز على الدور المباشر للدولة في بناء المساكن.
إدارة العجز والتحول في الأولويات
لتوفير التمويل اللازم لهذه المبادرات، يعتزم مارك كارني إعادة النظر في طريقة إدارة العجز في الميزانية الكندية. سيتم توجيه الاستثمارات نحو القطاعات التي تحتاج إليها بشكل خاص، مع تقليل الإنفاق في مجالات أخرى تتعلق بالرفاهية الكندية. هذا النهج يعكس إدراك كارني بأهمية اتخاذ قرارات صعبة في ظل الظروف الاقتصادية الصعبة.
استقرار حكومة كارني في ظل معارضة برلمانية
على الرغم من أن حكومة كارني الليبرالية لا تتمتع بأغلبية برلمانية، إلا أنها تمكنت من الحصول على الدعم الكافي لتمرير ميزانيتها وتنفيذ خططها. يعود الفضل في ذلك إلى تزايد القلق بين أعضاء المعارضة من احتمال انتخابات مبكرة قد تؤدي إلى فوز المحافظين، وبالتالي إلى سياسات أكثر تقاربًا مع ترامب. فوز كارني الضيق في تصويت الميزانية في 17 نوفمبر الماضي يؤكد على هشاشة موقفه السياسي، ولكنه يضمن في الوقت الحالي استمرار حكومته في العمل.
مارك كارني و مستقبل كندا
باختصار، يمثل صعود مارك كارني إلى السلطة في كندا تحولًا استراتيجيًا في مواجهة التحديات التي فرضها ترامب. من خلال تبني سياسة صناعية قوية، وتعزيز الإنفاق الدفاعي، والاستثمار في البنية التحتية، يسعى كارني إلى بناء كندا أكثر قوة واكتفاءً ذاتيًا واستقلالية. على الرغم من التحديات السياسية والاقتصادية الهائلة التي تواجهه، يظل كارني يمثل الأمل في مستقبل أفضل لكندا في عالم مضطرب. يبقى المستقبل حافلاً بالتقلبات، لكن قيادة كارني تؤكد على تصميم كندا على حماية مصالحها وسيادتها. ومن المهم متابعة تطورات السياسة الكندية تحت قيادة كارني ومراقبة تأثيرها على الاقتصاد الكندي والعلاقات الدولية. السياسة الصناعية التي ينتهجها، والتركيز على الاستثمار الاستراتيجي، قد يكونان مفتاحًا لنجاح كندا في المستقبل.
