فقر الأطفال في المملكة المتحدة: أزمة تتصاعد وتطالب بحلول عاجلة
لم يخطر في بال البريطانية، ثاي جافي، يوماً أنها ستضطر إلى اللجوء لبنك مخصص لمساعدة الأطفال. فجافي، التي كانت تعمل على توجيه الأمهات العازبات في مجتمعها المحلي إلى جمعية «ليتل فيلدج» الخيرية، وجدت نفسها فجأة في موقف لا تُحسد عليه. هذه الجمعية توفر المستلزمات الأساسية للآباء الجدد غير القادرين على شرائها، من عربات وأسرّة إلى ملابس وحفاضات وألعاب وكتب. لكن حين حملت جافي بطفلها الثاني، أدركت عجزها عن تلبية احتياجاته الأساسية. هذه القصة ليست حالة فردية، بل هي جزء من واقع مرير يواجهه عدد متزايد من الأطفال في المملكة المتحدة، حيث يرتفع معدل فقر الأطفال بشكل مقلق.
مستويات غير مسبوقة من الفقر تؤرق بريطانيا
وصل فقر الأطفال في المملكة المتحدة إلى مستويات غير مسبوقة، مدفوعاً بارتفاع تكاليف المعيشة وتراجع شبكة الأمان الاجتماعي. سنوات من التقشف الحكومي أدت إلى انحسار الخدمات العامة، مما فاقم الأوضاع المعيشية للأسر ذات الدخل المحدود. وسط هذا التراجع، تلعب الجمعيات الخيرية مثل «ليتل فيلدج» دوراً حيوياً في سد الفجوات وتقديم المساعدة الضرورية.
صوفي ليفينغستون، المديرة التنفيذية للجمعية، تشرح حجم المأساة: “واجهنا عائلة تعتمد في غذائها فقط على رقائق الذرة والأرز.” وتضيف: “لدينا الكثير من العائلات تعيش في غرفة واحدة فقط، تعاني من العفن، حتى عندما تمتلك هذه العائلات مسكناً.” هذه المشاهد المؤلمة تعكس الواقع القاسي الذي يعيشه الأطفال وأسرهم في بريطانيا.
أرقام صادمة تكشف أبعاد الأزمة
تشير التقارير الحكومية إلى أن ما يقرب من ثلث الأطفال في المملكة المتحدة، أي ما يعادل 4.5 ملايين طفل، يعيشون تحت خط الفقر أو ما يُعرف بـ”الفقر النسبي”. ويُقاس هذا الفقر بالعيش في أسر يقل دخلها عن 60% من متوسط الدخل بعد خصم تكاليف السكن. الأكثر إثارة للقلق هو أن حوالي مليون طفل يعيشون في فقر مدقع، محرومين من أبسط الحقوق مثل الدفء والملبس والطعام.
وتؤكد دراسة حديثة أجرتها مؤسسة “جوزيف رونتري” المتخصصة في أبحاث الفقر، أن الوضع يزداد سوءاً، وتشير التوقعات إلى انضمام 300 ألف طفل آخر إلى دائرة الفقر بحلول عام 2030 إذا لم تتخذ خطوات فعالة. هذا الارتفاع المطرد في معدلات الفقر يجعل بريطانيا تتخلف عن الركب مقارنة بالدول الغنية الأخرى.
السياسات الحكومية وتأثيرها على الأسر
لا يقتصر الأمر على الظروف الاقتصادية الصعبة، بل إن القرارات السياسية الأخيرة قد ساهمت بشكل كبير في تفاقم مشكلة الفقر في المملكة المتحدة. فقد أدخلت الحكومات المتعاقبة، خلال الفترة من 2010 إلى 2024، قيوداً على الخدمات العامة كجزء من برنامج تقشف يهدف إلى تخفيض الإنفاق العام.
ويشير الخبراء إلى أن ثلاث سياسات رئيسية كانت “مسؤولة إلى حد كبير” عن الزيادة في فقر الأطفال: وضع حد أقصى لإجمالي الإعانات التي يمكن للأسرة الحصول عليها، وتحديد سقف لإعانات السكن، وتقييد إعانة الطفل الثاني. وبالذات، تحديد حد أقصى لإعانة الطفلين ألقى بظلاله على الأسر الكبيرة، وزاد من معاناتها.
قصص من أرض الواقع: صراع يومي للبقاء
ليا، أم لتوأمين في السابعة من العمر، وبيانه تظهر صعوبة الأوضاع، تؤكد أنها تعيش في “خوف دائم”. على الرغم من حصولها على شهادة جامعية في القانون، إلا أنها اضطرت إلى ترك وظيفتها بسبب الاحتياجات المعقدة لإحدى بناتها، والتي تعاني من عسر القراءة وتأخر النمو. وتقول: “يريد أطفالي أن يفعلوا ما يفعله أقرانهم، لكن ميزانيتنا لا تسمح بذلك. بعد شراء الاحتياجات الأساسية، لا يتبقى أي مبلغ للأنشطة الإضافية.”
وحتى العائلات التي تنجح في تأمين الاحتياجات الأساسية، تواجه صراعاً شهرياً مرهقاً دون أي ضمان مالي. تُظهر البيانات أن 70% من العائلات التي تعيش في فقر لديها فرد واحد على الأقل يعمل، مما يدل على أن مجرد العمل ليس كافياً لضمان حياة كريمة. كذلك، تعتبر كلفة رعاية الأطفال في المملكة المتحدة من الأعلى في العالم، حيث تصل إلى 25% من دخل الوالدين.
ماذا عن الحلول؟
أعلنت حكومة العمال الحالية، التي وصلت إلى السلطة في يوليو الماضي، أن “كل طفل، بغض النظر عن خلفيته، يستحق أفضل بداية لحياته”. وتُشير إلى استثمارها في برامج تنمية الأطفال وتوسيع نطاق الوجبات المجانية في المدارس، بالإضافة إلى حزمة دعم للأزمات بقيمة مليار جنيه إسترليني.
ومع ذلك، تواجه الحكومة تحديات كبيرة في الموازنة بين وعودها بالتغيير وقيود الميزانية. إذ أن تحقيق توازن بين الاستثمار في الخدمات العامة وتعهدها بعدم زيادة الضرائب على العمال أمر صعب للغاية.
في الختام، يجب التعامل مع فقر الأطفال في المملكة المتحدة كأزمة وطنية تتطلب حلولاً عاجلة وشاملة. الجمعيات الخيرية تعمل بجد لمساعدة المحتاجين، لكنها لا تستطيع حل المشكلة بمفردها. يجب على الحكومة والمجتمع المدني العمل معاً لضمان حصول كل طفل على فرصة عادلة في الحياة، وتوفير الدعم اللازم للأسر التي تعاني من صعوبات اقتصادية. الاستثمار في مستقبل الأطفال هو استثمار في مستقبل بريطانيا.
