يشهد العالم سباقاً محمومًا نحو إيجاد مصادر غذائية مستدامة، قادرة على تلبية الاحتياجات المتزايدة للسكان، مع الحفاظ على البيئة وتقليل البصمة الكربونية. وفي هذا السياق، حقق فريق من العلماء نجاحًا باهرًا في تطوير فطر غذائي معدل وراثيًا، يتميز بغناه بالبروتين، وقربه في المذاق والملمس من اللحوم، والأهم من ذلك، بتقليل تأثيره البيئي بشكل ملحوظ. هذا التقدم يمثل خطوة مهمة نحو مستقبل غذائي أكثر أمانًا واستدامة، ويعتمد بشكل كبير على تقنية التعديل الوراثي، وعلى وجه الخصوص تقنية كريسبر (CRISPR).
تعديل الفطر وراثيًا لإنتاج بروتين مستدام
لقد تمكن العلماء من تعديل فطر غذائي، من نوع فيوزاريوم ڤينيناتوم، ليكون مصدرًا غنيًا بالبروتين وأكثر جاذبية للمستهلكين. يعود الفضل في هذا الإنجاز إلى استخدام تقنية كريسبر (CRISPR) لتغيير بعض الجينات داخل الفطر، مما أدى إلى تحسين كفاءة إنتاجه وتقليل استهلاكه للموارد. الهدف الرئيسي من هذا التعديل هو تقديم بديل مستدام للحوم، يساهم في تخفيف الضغط على البيئة الناجم عن الزراعة الحيوانية التقليدية.
ما هي تقنية كريسبر (CRISPR)؟
كريسبر (Clustered Regularly Interspaced Short Palindromic Repeats) هي تقنية ثورية لتعديل الجينات، تعمل كـ “مقص جيني” دقيق. تعتمد هذه التقنية على نظام مناعي طبيعي موجود في البكتيريا، حيث تستخدم إنزيمًا يسمى Cas9 وجزيء RNA مُوجِّه لاستهداف قطع مناطق محددة من الحمض النووي (DNA) بدقة عالية. يمكن استخدام كريسبر لتعديل وإصلاح الجينات، ولها تطبيقات واسعة في مختلف المجالات، بما في ذلك علاج الأمراض الوراثية وتعزيز الإنتاج الزراعي. الأمر الجدير بالذكر في هذه الدراسة أن التعديل تم دون إضافة أي حمض نووي غريب إلى جينات الفطر، مما يقلل المخاوف المتعلقة بالمواد المعدلة وراثياً.
فوائد الفطر المعدل وراثيًا: تقليل البصمة البيئية
أظهرت دراسة حديثة نشرتها مجلة Trends in Biotechnology أن الفطر المعدل يتمتع بفوائد بيئية واضحة. فقد تبين أن تأثيره البيئي أقل بنسبة تصل إلى 61٪ مقارنة بطرق إنتاج اللحوم التقليدية. يرجع ذلك إلى انخفاض كبير في استهلاك الموارد مثل المياه والأراضي والطاقة. كما أن الفطر المعدل يتميز بقدرة عالية على الهضم، مما يجعله خيارًا غذائيًا صحيًا ومفيدًا.
تعتبر الزراعة الحيوانية مسؤولة عن حوالي 14٪ من الانبعاثات العالمية للغازات الدفيئة، بالإضافة إلى استهلاكها لكميات هائلة من المياه والأراضي. لذلك، فإن البحث عن بدائل مستدامة للحوم أمر ضروري لمواجهة تحديات تغير المناخ والأمن الغذائي. البروتينات الميكروبية، مثل تلك الموجودة في الخمائر والفطريات، تعتبر واعدة في هذا المجال، لقدرتها على توفير بروتين عالي الجودة مع تقليل الأثر البيئي.
كيف تم تحقيق هذا التعديل الوراثي؟
ركز فريق البحث بقيادة شياو ليو من جامعة جيانجنان في الصين على تعطيل جينين أساسيين في الفطر من خلال تقنية كريسبر. الجين الأول مسؤول عن إنتاج الكيتين، وهي مادة تعطي جدار الخلية صلابته، مما يجعل هضم الفطر صعبًا. الجن الثاني مسؤول عن إنزيم “بايروفيت ديكاربوكسيلاز” المرتبط بعملية الأيض.
من خلال إزالة الجين المسؤول عن إنزيم الكيتين سينثاز، أصبح جدار الخلية للفطر أرق وأكثر سهولة للهضم. وفي الوقت نفسه، ساهم تعطيل الجين المسؤول عن الأيض في تحسين توازن العمليات الأيضية داخل الفطر، مما أدى إلى إنتاج البروتين نفسه باستخدام كمية أقل من العناصر الغذائية. وقد أطلق الباحثون على السلالة الجديدة اسم FCPD.
نتائج مذهلة في الكفاءة والإنتاجية
أظهرت الاختبارات أن السلالة الجديدة FCPD قادرة على إنتاج نفس الكمية من البروتين باستخدام 44٪ فقط من كمية السكر التي تحتاجها السلالة الطبيعية. بالإضافة إلى ذلك، حققت السلالة المعدلة معدل إنتاج أسرع بنسبة 88٪، مما أدى إلى خفض كبير في تكلفة الطاقة والموارد اللازمة لإنتاج البروتين الفطري. هذه التحسينات تمثل نقلة نوعية في كفاءة إنتاج البروتينات البديلة.
قام الباحثون بتقييم أداء FCPD في ستة دول مختلفة ذات أنظمة طاقة متنوعة، للتأكد من ثبات الفوائد البيئية. وأظهرت النتائج أن FCPD حافظت على بصمة بيئية أقل في جميع الحالات، مما يؤكد أن الفوائد البيئية لا تعتمد على نوع مصدر الطاقة المستخدم.
نظرة مستقبلية للبروتين الفطري المعدل وراثيًا
يؤكد الباحثون أن تطوير الأطعمة المعدلة وراثيًا، بطريقة مسؤولة مثل هذه الدراسة، يمكن أن يلعب دورًا حاسمًا في تلبية الاحتياجات الغذائية العالمية المتزايدة، مع الحفاظ على البيئة. إن القدرة على تحسين الغذاء داخل المختبر باستخدام تقنيات علم الجينوم، دون الحاجة لإضافة جينات خارجية، قد تساهم في زيادة قبول المجتمع لهذه التقنيات. كما أن هذا النهج قد يسهل عملية الموافقة التنظيمية في العديد من الدول.
في الختام، يمثل تطوير الفطر المعدل وراثيًا FCPD خطوة هامة نحو مستقبل غذائي أكثر استدامة ومرونة. هذا الابتكار يفتح الباب أمام المزيد من الأبحاث والتطوير في مجال البروتينات الميكروبية المعدلة وراثيًا، مما قد يؤدي إلى إحداث ثورة في صناعة الغذاء وتقليل اعتمادنا على الزراعة الحيوانية التقليدية. فالتعديل الوراثي يعتبر أداة قوية لتحقيق الأمن الغذائي وحماية كوكبنا.
اقرأ أيضاً:
دراسة ترصد تأثيرات إيجابية لنظام الغذاء النباتي على إبطاء الشيخوخة
تابع أحدث الدراسات والاكتشافات العلمية، إذ إن اتباع النظام الغذائي النباتي يحمل العديد من الفوائد، بما في ذلك تحسين صحة القلب والحد من الأمراض المزمنة.
