كان ديف نيسواندر قد بلغ 37 من عمره، ويشغل منصباً مرموقاً في أحد البنوك الاستثمارية بالعاصمة الأميركية واشنطن، ويتمتع بمكانة مهنية مرموقة ومستقبل واعد، إلا أن شعوراً متزايداً بخيبة الأمل وعدم الرضا، بدأ يتسلل إلى نفسه تجاه طبيعة عمله. هذا الشعور، وهو بحث عن معنى أعمق، دفعه في النهاية إلى تغيير جذري في حياته، ليصبح في قلب عمل إغاثي بالدراجات يغير حياة الآلاف في أفريقيا. قصة نيسواندر هي شهادة على قوة التفاني والتحول الشخصي، وكيف يمكن لرحلة بسيطة أن تقود إلى هدف سامٍ.

نقطة التحول: لقاء غير متوقع في أفريقيا

خلال إجازة قضاها في أفريقيا، حدث تحول مفصلي في حياة نيسواندر، عندما التقى بمؤسسي «منظمة إغاثة الدراجات العالمية» (WBR) غير الربحية، إف كي داي، وزوجته ليا ميسباخ داي. لم يكن هذا اللقاء مجرد مصادفة، بل كان بمثابة الشرارة التي أشعلت بداخله رغبة قوية في إحداث فرق حقيقي.

نيسواندر صُدم بالإمكانيات التي أظهرها هذان الزوجان، وشجاعتهما في التخلي عن حياة مريحة من أجل خدمة الآخرين. عملهما الأساسي كان يتمحور حول مكافحة الفقر في الدول النامية، ليس من خلال المساعدات النقدية التقليدية، بل من خلال توفير وسيلة نقل بسيطة وفعالة: الدراجة الهوائية. هذه الدراجات لم تكن مجرد وسيلة للتنقل، بل كانت تمثل دعماً حيوياً للتعليم، والصحة، والتنمية الاقتصادية للمجتمعات الريفية.

من وول ستريت إلى زامبيا: بداية رحلة جديدة

بعد ستة أسابيع من العودة من إجازته، تلقى نيسواندر مكالمة هاتفية غير متوقعة من إف كي داي، دعاه فيها لمرافقته في رحلة عمل إلى زامبيا. هذه الدعوة كانت فرصة لا تُعوض للتطوع والمساهمة في جهود المنظمة، وهي فرصة لم يتردد نيسواندر في قبولها.

كان عام 2007 عاماً مهماً، حيث بدأت ملامح الأزمة المالية العالمية تظهر بوضوح، بينما كان نيسواندر يعمل في قطاع الخدمات المالية. ومع تزايد إدراكه للحاجة إلى تغيير، توجه إلى رئيسه في بنك الاستثمار وأخبره بقراره بالسفر إلى أفريقيا للعمل الخيري. الرد الذي تلقاه كان مفاجئاً ومريحاً في آن واحد: “حسناً، هذا رائع”.

في زامبيا، واجه نيسواندر واقعاً قاسياً. انتشار وباء الإيدز على نطاق واسع خلق حاجة ماسة إلى دعم عمال المجتمع الصحي، الذين كان عليهم قطع مسافات طويلة سيراً على الأقدام، تصل إلى 10-15 كيلومتراً يومياً، من أجل تقديم الرعاية للأطفال الأيتام والمتضررين. كانت منظمة WBR قد تعهدت بتوفير 32 ألف دراجة لمساعدة هؤلاء العمال، لكن تحقيق هذا الهدف لم يكن سهلاً.

تحديات الواقع وتصميم “دراجة بافالو”

أدرك نيسواندر سريعاً أن الدراجات المحلية المتاحة كانت رديئة الصنع وغير قادرة على تحمل الظروف القاسية في زامبيا. كانت تتعطل بسرعة، مما يعيق جهود العمال ويعطل تقديم المساعدة. لذلك، طرح سؤالاً جوهرياً على إف كي داي: “كيف يمكننا توفير هذا العدد الكبير من الدراجات الموثوقة في بلد بهذا الحجم، الذي يتجاوز مساحة فرنسا، ويعاني من ضعف البنية التحتية؟”

كان رد داي مقتضباً وحاسماً: “هذا هو الأمر الذي سيكتشفه بنفسك”. هذه العبارة كانت بمثابة التحدي الذي دفعه إلى الغوص في أعماق المشكلة والبحث عن حلول مبتكرة.

قرر نيسواندر أن يأخذ إجازة من عمله في واشنطن، متوقعاً أن تستغرق حوالي عام واحد. ولكن، سرعان ما اتضح أن هذه الإجازة ستطول بشكل غير متوقع، حيث أمضى ست سنوات في زامبيا وثلاث سنوات أخرى في جنوب إفريقيا. هذه السنوات الطويلة من العمل الميداني كانت ضرورية لفهم الاحتياجات الحقيقية للمجتمعات المحلية، ووضع الحلول المناسبة.

كانت تلك الفترة مليئة بالتحديات، ولكنها شهدت أيضاً ولادة “دراجة بافالو”. هذه الدراجة الفريدة من نوعها صُممت خصيصاً لتلبية متطلبات الظروف الصعبة في أفريقيا، فهي قادرة على تحمل الطرق الوعرة وحمل الأوزان الثقيلة، وتوفر وسيلة نقل موثوقة وفعالة للعاملين الصحيين وغيرهم من المحتاجين. توزيع الدراجات أصبح رمزاً للأمل والتغيير الإيجابي.

الريادة والوصول إلى مليون دراجة: مستقبل واعد

أُثني إف كي داي على استعداد نيسواندر للتخلي عن حياته المهنية المرموقة والانضمام إلى المنظمة، مؤكداً أن فلسفته التجارية تتطابق تماماً مع القيم التي يؤمن بها هو وزوجته. هذا التوافق في الرؤى والقيم ساهم بشكل كبير في تعزيز نجاح المنظمة واستدامتها.

مع توسع نطاق عمل المنظمة، وجهت WBR اهتماماً خاصاً لمجال التعليم. تعاونت المنظمة مع وزارة التعليم في زامبيا لمساعدة النساء والفتيات اللواتي يواجهن صعوبات في الوصول إلى المدارس، من خلال تزويدهن بالدراجات الهوائية. هذا الدعم لم يقتصر على تسهيل وصولهن إلى التعليم، بل ساهم أيضاً في تحسين ظروفهن الاجتماعية والاقتصادية. العمل الخيري بالدراجات كان له تأثير مضاعف.

وبمناسبة اقتراب منظمة WBR من الذكرى السنوية العشرين لتأسيسها، تتوقع تجاوز حاجز المليون دراجة موزعة خلال النصف الأول من عام 2026. هذا الإنجاز الهائل يعكس حجم التأثير الذي حققته المنظمة على مدى سنوات عملها، والتزامها الراسخ بتحسين حياة المجتمعات الأفريقية. الآن، ديف نيسواندر يقود هذه المنظمة كرئيس تنفيذي، وقد تحول حلمه إلى واقع ملموس. تعتبر قصة WBR مثالاً ساطعاً على قوة المسؤولية الاجتماعية وأهمية البحث عن هدف أسمى في الحياة.

شاركها.
Exit mobile version