في السنوات الأخيرة، شهدت شركات الصناعات العسكرية تحولاً ملحوظاً في استراتيجياتها، متجاوزةً الاعتماد التقليدي على العقود الحكومية لتجد لنفسها أسواقاً مزدهرة في الداخل. هذا التحول يتمثل بشكل أساسي في الاستفادة من “الاستخدام المزدوج” للتقنيات، حيث يتم تكييف الأدوات والأنظمة التي صُممت في الأصل للمعارك لتلبية احتياجات الأمن الداخلي والقطاع المدني. هذا التوجه أثار جدلاً واسعاً حول تطبيع التكنولوجيا العسكرية، خاصة مع انتشار الطائرات المسيّرة وأنظمة المراقبة المتطورة. تستكشف هذه المقالة كيف تحقق شركات الصناعات العسكرية أرباحاً طائلة من خلال هذا التوسع، وما هي التداعيات الأخلاقية والقانونية المترتبة عليه.
الاستخدام المزدوج: من ساحات الوغى إلى الشوارع
تعتمد فكرة الاستخدام المزدوج على حقيقة أن العديد من التقنيات العسكرية يمكن تطبيقها بفعالية في مجالات أخرى. هذا ليس مفهوماً جديداً، لكن نطاقه وسرعته قد ازدادت بشكل كبير بعد عقود من الحروب في العراق وأفغانستان. خلال هذه الصراعات، استثمرت الحكومات مبالغ هائلة في تطوير أدوات جمع المعلومات والمراقبة، والآن تكتشف هذه الشركات أن هناك طلباً كبيراً على هذه الأدوات داخل الولايات المتحدة وخارجها. تستطيع الشركات مثل بالانتير وسكايديو وجنرال أتوميكس تحويل التكنولوجيا العسكرية التي تم اختبارها في مناطق النزاع إلى حلول تجارية مربحة.
بالانتير: من مكافحة الإرهاب إلى الأمن العام
شركة بالانتير للبرمجيات هي مثال بارز على هذا التوجه. بدأت بالانتير بتطوير منصة “غوثام” كأداة استخباراتية للجيش الأمريكي في حربي العراق وأفغانستان، بهدف التنبؤ بهجمات المتفجرات. لاحقاً، تم تبني المنصة من قبل وكالات الدفاع والاستخبارات الإسرائيلية خلال الصراعات في غزة، وتم تسويقها في الوقت نفسه كأداة أمنية للشرطة. اليوم، تستخدم مئات أقسام الشرطة في الولايات المتحدة “غوثام” لتحليل البيانات وتتبع تحركات المواطنين، بينما حصلت الشركة على عقود كبيرة مع وكالات حكومية مثل إدارة الهجرة والجمارك الأمريكية لمراقبة المهاجرين غير الشرعيين.
أجهزة “ستينغرايز”: مراقبة الهواتف النقالة
أجهزة “ستينغرايز” التي تنتجها شركة إل 3 هاريس، وهي عبارة عن مولدات أبراج اتصالات وهمية، تمثل مثالاً آخر. صُممت هذه الأجهزة في الأصل لجمع معلومات استخباراتية عن طريق اعتراض اتصالات الأهداف العسكرية، ولكن سرعان ما تبنتها أقسام الشرطة لمراقبة المشتبه بهم. على الرغم من أن الشركة بدأت في التخلص التدريجي من هذه الأجهزة، إلا أن تأثيرها لا يزال قائماً، حيث تثير مخاوف بشأن الخصوصية الجماعية وجمع البيانات العشوائي.
الطائرات المسيّرة: سوق مزدهر مدفوع بالاستخدامات الأمنية
تعتبر الطائرات المسيّرة من أبرز التقنيات التي تشهد انتشاراً واسعاً من خلال الاستخدام المزدوج. الشركات الدفاعية تستفيد من خبرتها في تطوير الطائرات المسيّرة العسكرية لتلبية الطلب المتزايد من قبل الأجهزة الأمنية والشرطية. يُقدر حجم سوق الطائرات المسيّرة المستخدمة في الأمن العام بأنه سيتضاعف ثلاث مرات تقريباً خلال السنوات العشر المقبلة، مدفوعاً بالتمويل الفيدرالي والجهود التشريعية التي تهدف إلى تطوير هذه التقنيات.
عقود حكومية واستثمارات خاصة
خصصت إدارة الرئيس ترامب 1.5 مليار دولار لتقنيات الطائرات المسيّرة، بما في ذلك 500 مليون دولار لاستراتيجيات الأمن المضادة للطائرات المسيّرة. كما أن قانون الطائرات المسيّرة، المضمن في قانون تفويض الدفاع الوطني، يسمح للشرطة بشراء وتشغيل هذه الأنظمة باستخدام منح فيدرالية. وقد حصلت شركة سكايديو، على سبيل المثال، على عقود كبيرة لتزويد قوات الشرطة بطائرات مسيّرة، بما في ذلك عقد بقيمة 4.6 مليون دولار لتزويد شرطة بروكلين بارك في مينيسوتا.
استخدام الطائرات المسيّرة في المراقبة الجامعية
لا يقتصر استخدام الطائرات المسيّرة على الأجهزة الأمنية الحكومية، بل يمتد أيضاً إلى المؤسسات التعليمية. استخدمت جامعات مثل جامعة ييل الطائرات المسيّرة لمراقبة الطلاب خلال الاحتجاجات في الحرم الجامعي، مما يعكس اتجاهاً أوسع نحو دمج هذه التقنيات في الأمن الجامعي.
التداعيات الأخلاقية والقانونية لـ الصناعات العسكرية
إن انتشار التقنيات التي طورتها الصناعات العسكرية في المجال المدني يثير تساؤلات أخلاقية وقانونية مهمة. في حين أن هذه التقنيات يمكن أن تكون مفيدة في تحسين الأمن العام والاستجابة للطوارئ، إلا أنها تحمل أيضاً مخاطر كبيرة على الخصوصية والحريات المدنية. أجهزة “ستينغرايز”، على سبيل المثال، قادرة على اعتراض بيانات جميع الهواتف في منطقة معينة، مما يثير مخاوف بشأن جمع البيانات العشوائي. كما أن استخدام الطائرات المسيّرة في المراقبة يمكن أن يخلق شعوراً بالرقابة ويؤثر سلباً على الحق في التجمع السلمي.
نحو تنظيم أكثر فعالية
هناك حاجة إلى تنظيم أكثر فعالية لضمان استخدام هذه التقنيات بطريقة مسؤولة تحترم حقوق المواطنين. يجب أن تكون هناك قوانين واضحة تحدد متى وكيف يمكن استخدام هذه التقنيات، وأن تكون هناك آليات للمساءلة والرقابة. كما يجب أن يكون هناك حوار عام حول التداعيات الأخلاقية والقانونية لانتشار التكنولوجيا العسكرية في المجال المدني.
في الختام، يمثل الاستخدام المزدوج للتقنيات العسكرية فرصة مالية كبيرة لشركات الصناعات العسكرية، ولكنه يطرح أيضاً تحديات أخلاقية وقانونية خطيرة. من الضروري إيجاد توازن بين الاستفادة من هذه التقنيات لتحسين الأمن العام وحماية حقوق المواطنين. يتطلب ذلك تنظيمًا فعالًا، ومساءلة، وحوارًا عامًا مستمرًا لضمان استخدام هذه الأدوات القوية بطريقة مسؤولة.



