عندما قدّم الرئيس الكوري الجنوبي لي جي ميونغ تاجاً من الذهب للرئيس الأميركي دونالد ترامب خلال زيارته لمدينة غيونغجو التاريخية في أكتوبر الماضي، أثار ذلك موجة من الاستنكار والانتقادات في الولايات المتحدة، خاصةً من قبل التقدميين. اعتبر الكثيرون هذه الخطوة بمثابة “إذعان” وتملق فاضح، في محاولة لإرضاء ترامب. لكن ما بدا للبعض استسلاماً، كان في الواقع جزءاً من استراتيجية دقيقة تهدف إلى حماية المصالح الوطنية الكورية الجنوبية، وهي استراتيجية أظهرت جدواها سريعاً في مواجهة الضغوط الأميركية المتزايدة. هذه الاستراتيجية، والتي يمكن وصفها بـ الدبلوماسية البراغماتية، تتجاوز مجرد إهانة البروتوكول وتصل إلى جوهر العلاقات الدولية المعقدة.

خلفية الحدث: تاج الذهب وردود الفعل المتباينة

الجدل حول تاج الذهب لم يكن مجرد جدل حول هدية باهظة الثمن. بل تجسيداً لرمزية القوة والنفوذ، وكيف يمكن للدول الأصغر التعامل مع القوى العظمى. الإعلامية في برنامج “ذي ديلي شو” عبرت عن قلقها من أن هذه الإيماءة “لا تساعد” في جهود تقليل صورة ترامب كـ “ملك”، وهي الصورة التي يسعى الكثيرون في الولايات المتحدة إلى تفكيكها.

لكن سرعان ما كشفت الأحداث عن وجه آخر للقصة. بعد ستة أسابيع فقط، أظهرت وثيقة استراتيجية الأمن القومي الكورية الجنوبية أن “التاج” لم يكن مجرد إرضاء عابر، بل منح سيؤول “متسعاً من الوقت للمناورة” في التعامل مع ترامب ومطالبه، التي رأت فيها بعض المبالغة.

الضغوط الأميركية وتخفيف التوترات

في الوقت الذي كانت فيه واشنطن تضغط على كوريا الجنوبية لزيادة “مرونة كوريا الاستراتيجية” في مواجهة أي طارئ يتعلق بتايوان، وتخصيص المزيد من الموارد للدفاع الجماعي، تمكنت سيؤول من الحصول على تنازلات مهمة. هذه التنازلات شملت تخفيفاً للرسوم الجمركية، واتفاقية لبناء غواصات نووية، والأهم من ذلك، وقتاً كافياً لمقاومة الانجرار إلى صراع محتمل مع الصين حول تايوان.

كوريا الجنوبية، التي لا تملك مصلحة في التورط في مثل هذا الصراع، وجدت في هذا “الوقت للمناورة” فرصة ذهبية لحماية مصالحها الاقتصادية والاستراتيجية. هذه النقطة تبرز أهمية العلاقات الكورية الصينية كعامل مؤثر في حسابات سيؤول.

إدارة الأقوياء: استراتيجية كورية قديمة

يمكن فهم احتجاجات “لا نريد ملوكاً” التي اندلعت في الولايات المتحدة، وكذلك استنكار التقدميين الأميركيين لخطوة سيؤول. لكن من وجهة نظر كوريا الجنوبية، الأمر مختلف تماماً. التاج لم يكن تعبيراً عن الخضوع، بل أسلوباً لإدارة قوة عظمى متطلبة، وتطبيقاً لمبدأ قديم: “إدارة الأقوياء لضمان بقاء الضعفاء”.

هذه الاستراتيجية تعكس إدراكاً عميقاً لطبيعة العلاقات الدولية، حيث غالباً ما تضطر الدول الصغيرة إلى اللعب بذكاء للحفاظ على استقلالها ومصالحها. إنها ليست بالضرورة استراتيجية مثالية، لكنها قد تكون الأكثر واقعية في ظل الظروف الحالية.

“الطفل الذهبي” وترامب: فهم الديناميكية

لفهم رد الفعل الكوري الجنوبي، من المهم النظر إلى اللقب الذي أطلقوه على ترامب: “تيو-جوك-آي” (الطفل الذهبي). هذا اللقب مستوحى من برنامج واقعي كوري شهير يتعامل مع الأطفال الذين يعانون من مشاكل سلوكية. في هذا البرنامج، لا يهدف المعالجون إلى معاقبة الأطفال، بل إلى إدارة سلوكهم من أجل مصلحة الأسرة.

وبالتالي، فإن تقديم تاج الذهب لترامب لم يكن محاولة لإرضائه كشخص، بل كان استعراضاً موجهاً لشخصية مهووسة بالمكانة، ووسيلة لتهدئة “الطفل الذهبي” وتوجيه سلوكه في الاتجاه الذي يخدم مصالح كوريا الجنوبية. وهذا يؤكد على استخدام الحوافز الاستراتيجية كأداة دبلوماسية.

صفقة أم شراكة؟ التكلفة الحقيقية للأمن

السخرية في الولايات المتحدة كانت لاذعة، لكنها كانت مبنية على قلق حقيقي. يرى البعض أن كوريا الجنوبية يجب أن “تدفع ما يفرضه عليها ترامب”، وأن التحالف الأمني يجب أن يكون مبنياً على المساهمة العادلة من كلا الطرفين.

الإطار الذي تم الاتفاق عليه في غيونغجو يتضمن استثمارات كورية جنوبية تدريجية بقيمة 350 مليار دولار أميركي، وتعاوناً في بناء السفن، وتخفيضات جمركية لشركات صناعة السيارات الكورية الجنوبية. لكن ترامب يواصل الضغط من أجل زيادة تقاسم تكاليف الدفاع، محولاً التحالف من شراكة أمنية إلى صفقة تجارية.

هذا الوضع يذكر بأزمة مالية آسيوية عميقة في عامي 1997-1998، حيث اضطرت كوريا الجنوبية إلى قبول خطة إنقاذ مهينة بسبب احتياطياتها المستنزفة من العملات الأجنبية. إن مطالبة دولة غنية بـ “الدفع” من دولة أصغر ليست مجرد مزحة، بل هي شكل من أشكال الابتزاز.

مسار عملي أم استسلام مُقنّع؟

اختارت كوريا الجنوبية مساراً قد يبدو “مهيناً” للبعض، لكنه يبدو عملياً للكثيرين. الديمقراطية تأخذ شكلاً مختلفاً عندما تواجه دولة جارة نووياً، وتعتمد على شريك تجاري رئيسي قادر على ممارسة ضغط اقتصادي حقيقي.

في النهاية، فإن الدبلوماسية البراغماتية التي تتبعها كوريا الجنوبية ليست بالضرورة إقراراً بالخضوع، بل هي محاولة ذكية لإدارة المخاطر والحفاظ على المصالح الوطنية في عالم معقد وغير متكافئ. وبينما قد ينتقد البعض هذه الاستراتيجية، لا يمكن إنكار أنها قد تكون الخيار الأكثر حكمة في ظل الظروف الحالية. يجب على الخبراء والمحللين مواصلة تقييم جدوى هذا النهج، والنظر في التداعيات طويلة الأجل لمثل هذه “المناورات” الدبلوماسية.

شاركها.
Exit mobile version