من يراقب الخطاب الغربي تجاه الصين يلحظ نبرة قلق تكاد تخفي خلفها خوفًا حقيقيًا. مرةً تُوصَف بأنها «خصم اقتصادي»، وأخرى «تهديد أمني»، وثالثة «قوة صاعدة لا يمكن الوثوق بها».
لكن خلف هذه التصنيفات، يكمن سؤال جوهري: ما الذي يجعل الغرب متوجسًا من التنين الشرقي الصيني؟ أهو اختلاف الأنظمة السياسية، أم الخشية من فقدان السيطرة على مفاصل القوة العالمية؟
إنّ المتأمل في السياسة الخارجية الصينية يكتشف أن بكين لا تسعى إلى الصدام، بل تعتمد نهج “الهجوم الدفاعي” — أي الردّ الحازم دون الانزلاق إلى المواجهة المفتوحة. هذا التوازن بين الانفتاح الاقتصادي والحزم السياسي هو ما جعلها تفرض نفسها كقوة لا يمكن تجاوزها في النظام العالمي الجديد.
أولاً: الصين تغيّر قواعد اللعبة
لم تعد الصين «مصنع العالم» فحسب، بل باتت لاعبًا رئيسيًا يُعيد رسم المشهد الاقتصادي العالمي.
منذ أكثر من عقدين، وضعت بكين خطة استراتيجية تهدف إلى السيطرة على سلاسل الإمداد الحساسة، وفي مقدّمتها صناعة المعادن النادرة، وهي المكوّن الأساسي للتقنيات الحديثة كالمحركات الكهربائية والهواتف الذكية والطائرات المقاتلة.
ووفقًا لتقرير نشرته صحيفة الشرق فقد فرضت الصين قيودًا مشددة على تصدير هذه المعادن، مما أثار قلقًا واسعًا في أوساط الصناعات الغربية الحساسة، خصوصًا الدفاعية منها.
هذه الخطوة اعتُبرت ورقة ضغط استراتيجية، تُظهر قدرة الصين على توظيف مواردها الاقتصادية كأداة نفوذ جيوسياسي، الأمر الذي يُضعف قدرة الغرب على المنافسة الصناعية ويكشف هشاشته أمام صعود القوة الآسيوية.
ثانيًا: لعبة الاقتصاد والنفوذ
ظاهريًا، يبدو الصراع بين واشنطن وبكين تجاريًا، لكنه في جوهره صراع على النفوذ المالي العالمي.
فالغرب لا يخشى فائض الإنتاج الصيني بقدر ما يخشى التحوّل في موازين السيطرة النقدية.
تقرير صادر عن الشرق أوضح أن استمرار التوتر التجاري بين البلدين أدى إلى تراجع الدولار أمام الذهب وارتفاع أسعار الملاذات الآمنة، وهو ما يعكس اضطرابًا في الثقة بالاقتصاد الأميركي.
في الوقت نفسه، تسعى بكين إلى تدويل عملتها اليوان وتوسيع تحالفاتها عبر تكتل “بريكس”، في محاولة لإعادة تشكيل النظام المالي العالمي بعيدًا عن هيمنة الدولار.
هذه الخطوات لا تعني فقط منافسة اقتصادية، بل إعادة توزيع القوة المالية على أسس جديدة، وهو ما يراه الغرب تهديدًا مباشرًا لنظامه الاقتصادي القائم منذ الحرب العالمية الثانية.
ثالثًا: التكنولوجيا والأمن القومي
المواجهة الصينية الغربية لم تقتصر على التجارة، بل امتدت إلى ساحة الأمن السيبراني والتجسس الصناعي.
في تقرير آخر نشرته الشرق أُشير إلى أن بريطانيا أسقطت قضية تجسس ضد صحفيين متهمين بالعمل لصالح الصين، بعد أن وصف رئيس جهاز MI5 الأنشطة الاستخباراتية الصينية بأنها “تهديد يومي” للأمن القومي البريطاني.
مثل هذه الحوادث تُغذّي قناعة متزايدة في الغرب بأن الصين تسعى إلى اختراق البنى التحتية الحيوية وشبكات الاتصالات، وهو ما يدفع دولاً أوروبية عدة إلى فرض قيود على الشركات الصينية العاملة في مجال التكنولوجيا والاتصالات.
لكن من وجهة نظر بكين، هذه الاتهامات ما هي إلا ذرائع سياسية تُستخدم لتبرير السياسات العدائية الغربية، ومحاولة لعرقلة تطورها التكنولوجي السريع في مجالات الذكاء الاصطناعي والفضاء والاتصالات المتقدمة.
رابعًا: الخوف من المستقبل لا من الحاضر
الخشية الغربية من الصين لا تنبع من واقعها الحالي فقط، بل من احتمالات مستقبلها.
فالصين تمثل نموذجًا اقتصاديًا فريدًا يجمع بين الكفاءة الصناعية والانضباط السياسي، وهو نموذج يناقض المنظومة الليبرالية الغربية القائمة على الفردية والانفتاح.
إنها قوة تعمل بصمت وتقدّم نتائج ملموسة، وتبني نفوذها من خلال المشاريع التنموية الضخمة مثل مبادرة الحزام والطريق، ما يجعلها شريكًا مفضلاً لدى كثير من الدول النامية التي سئمت الشروط الغربية المعقدة.
الغرب لا يخشى الصين لأنها تهدده اليوم، بل لأنه يدرك أنها إن واصلت مسارها الحالي، ستصبح غدًا قوة لا يمكن احتواؤها.
خلاصة القول
مشكلة الغرب مع الصين ليست في اختلاف الأيديولوجيا ولا في المنافسة التجارية فحسب، بل في تحوّل موازين القوة من الغرب إلى الشرق.
الصين لا ترفع صوتها ولا تهدّد أحدًا، لكنها تغيّر قواعد اللعبة بهدوء، وتبني منظومة عالمية جديدة تُنهي عهد التفوق الغربي الأحادي.
لهذا، فإن الخوف الغربي من الصين ليس ضعفًا، بل إدراكٌ متأخرٌ بأن العالم لم يعد يدور حول محور واحد.


