تُعدّ مشكلة الإدمان من التحديات الصحية والاجتماعية الكبيرة التي تواجه المجتمعات حول العالم. وبينما تُركز الجهود عادةً على الجوانب السلوكية والبيئية للإدمان، كشفت دراسة حديثة عن وجود ارتباط جيني قوي بين الإدمان ومستوى التحصيل الدراسي. هذه النتائج الجديدة تلقي الضوء على دور العوامل الوراثية في زيادة خطر الإصابة بالإدمان، وتوضح أيضاً كيف يمكن أن تؤثر هذه العوامل على الأداء الأكاديمي للأفراد. وتُظهر الدراسة أن هناك متغيرات جينية مشتركة تزيد من احتمالية كل من الإدمان وانخفاض المستوى التعليمي، مما يفتح الباب أمام فهم أعمق لهذه العلاقة المعقدة.
العلاقة الجينية بين الإدمان والتحصيل الدراسي: ما الذي كشفته الدراسة؟
أظهرت الأبحاث أن الصعوبات الدراسية والإدمان غالباً ما يظهران معاً، مما يشير إلى وجود عوامل مشتركة تساهم في كليهما. الدراسة، التي نشرتها دورية Addiction، حاولت تحديد هذه العوامل، ووجدت أن جزءاً كبيراً من هذا الارتباط يمكن تفسيره من خلال المتغيرات الجينية. تقول جوديت كابانا-دومينجيز، المؤلفة الرئيسية للدراسة، إن فهم هذه الصلة الجينية يمكن أن يساعد في تطوير استراتيجيات وقائية أكثر فعالية.
منهجية الدراسة وعينة المشاركين
اعتمدت الدراسة على تحليل بيانات أكثر من 1400 شخص يعانون من اضطرابات استخدام المواد المخدرة المختلفة، بما في ذلك الكوكايين والأفيونات والحشيش والمهدئات. استخدم الباحثون منهجية دراسة الارتباط على مستوى الجينوم (Genome-Wide Association Study – GWAS) لتحديد المتغيرات الجينية التي تزيد من خطر الإدمان، والتي ترتبط أيضاً بمستويات تعليمية منخفضة. هذه المنهجية تسمح بفحص الجينوم بأكمله للبحث عن أنماط وراثية مرتبطة بصفات معينة.
تأثير المتغيرات الجينية على الصحة والرفاهية
لم يقتصر تأثير المتغيرات الجينية المحددة على اضطرابات استخدام المواد المخدرة فحسب، بل امتد ليشمل نتائج صحية واجتماعية واقتصادية أسوأ. وهذا يشير إلى أن العلاقة بين الإدمان والتحصيل التعليمي المنخفض ليست مجرد صدفة، بل هي جزء من شبكة معقدة من العوامل الجينية التي تؤثر على حياة الأفراد بشكل عام. على الرغم من أن الدراسة لم تتمكن من تحديد ما إذا كان الإدمان يؤدي إلى انخفاض التحصيل الدراسي، أو العكس، إلا أنها أكدت وجود ارتباط جيني قوي بينهما.
كيف تعمل هذه المتغيرات الجينية؟
أظهرت الدراسة أن الأشخاص الذين يحملون أخطار جينية أعلى للإدمان يميلون إلى الحصول على مستويات تعليمية أقل. هذا لا يعني أن الجينات هي المصير المحتوم، بل يعني أنها تزيد من احتمالية حدوث هذه النتائج. قد تؤثر هذه المتغيرات الجينية على وظائف الدماغ المرتبطة بالتحكم في الدوافع، والتعلم، والذاكرة، مما يجعل الأفراد أكثر عرضة للإدمان وأقل قدرة على النجاح في الدراسة. فهم هذه الآليات البيولوجية يمكن أن يساعد في تطوير تدخلات علاجية ووقائية أكثر استهدافاً.
أهمية النتائج وتأثيرها على السياسات الصحية والتعليمية
هذا الاكتشاف يفسر جزئياً السبب وراء التزامن الشائع بين مشكلات الإدمان والصعوبات الدراسية، ويؤكد أن العلاقة بينهما ليست مجرد تأثير اجتماعي أو بيئي، بل لها أساس بيولوجي جزئي. تُعدّ هذه النتائج مؤشراً مهماً للجهات الصحية والتعليمية على حد سواء، حيث يمكن أن تساعد في تصميم استراتيجيات وقائية أكثر فعالية. على سبيل المثال، قد يكون تعزيز التحصيل التعليمي أحد الأدوات المفيدة لدعم نظم الصحة العامة في الوقاية من اضطرابات استخدام المواد المخدرة.
تؤكد كابانا-دومينجيز على أن الأدلة الجينية المستخلصة من الدراسة توضح وجود رابط بين الإدمان والتحصيل الدراسي، لكنها لا تسمح بتحديد اتجاه السببية بشكل قاطع. ومع ذلك، فإن هذه النتائج تشير إلى أن الاستثمار في التعليم يمكن أن يكون له أثر وقائي، خصوصاً لدى الأفراد الذين لديهم أخطار جينية عالية. بالإضافة إلى ذلك، فإن فهم هذه العوامل الوراثية يمكن أن يساعد في تحديد الأفراد الأكثر عرضة للخطر، وتقديم الدعم والموارد اللازمة لهم في وقت مبكر.
نظرة مستقبلية وأبحاث إضافية
على الرغم من أن هذه الدراسة تمثل خطوة مهمة في فهم العلاقة بين الإدمان والتحصيل الدراسي، إلا أن هناك حاجة إلى مزيد من الأبحاث لتحديد الآليات البيولوجية الدقيقة التي تربط بينهما. كما أن هناك حاجة إلى دراسات طويلة الأمد لتتبع الأفراد الذين لديهم أخطار جينية عالية، وتقييم مدى فعالية التدخلات الوقائية المختلفة. الإدمان تحدٍ معقد يتطلب نهجاً متعدد الأوجه، يشمل الجوانب البيولوجية والنفسية والاجتماعية. التحصيل الدراسي هو أيضاً عامل مهم يؤثر على حياة الأفراد ومستقبلهم. العوامل الوراثية تلعب دوراً هاماً في كليهما، وفهم هذا الدور يمكن أن يساعدنا في بناء مجتمعات أكثر صحة ورفاهية.
اقرأ أيضاً: علماء يضعون خريطة دماغية للإدمان
اقرأ أيضاً: دراسة جديدة تكشف عن دور الجينات في الاستعداد للإدمان.


