نافذة على المهمشين: عرض “علبة كبريت” يوقظ الضمير في مهرجان دبي لمسرح الشباب

يُعدّ مسرح الشباب في العالم العربي من أهم المنصات التي تتيح للفنانين الصاعدين التعبير عن رؤاهم وقضاياهم. وفي ختام فعاليات مهرجان دبي لمسرح الشباب، قدّم مسرح العين عرضًا متميزًا بعنوان “علبة كبريت”، ترك أثرًا عميقًا في نفوس الحاضرين والنقاد على حد سواء. من خلال سينوغرافيا مبتكرة تعتمد على الركام والنفايات، يفتح العرض نافذة على واقع مرير ومهمش، ينهض من قلب الفوضى والظلم، ويقدم تجربة مسرحية فريدة تتجاوز المألوف. العرض، الذي يمثل تجديدًا في المسرح، لا يكتفي بعرض المعاناة، بل يصرخ بها، ويطرح أسئلة جوهرية حول العدالة الاجتماعية، والاستغلال، وإرث الطغيان.

“علبة كبريت”: قصة الجرذان التي تروي حكايات البشر

يبدأ العرض بمشهد صادم، حيث تتساقط أكياس النفايات على خشبة المسرح، بينما يتحرك الممثلون بمهارة كأنهم جرذان، مقلدين حركاتهم وأصواتهم. هذا المشهد الافتتاحي ليس مجرد تمثيل، بل هو غوص مباشر في عالم المهمشين، عالم القمامة والنسيان. النص المكتوب ببراعة لمحمد صالح، وإن بدا بسيطًا في ظاهره، يحمل في طياته استعارات وإسقاطات عميقة، تجعل من القمامة لغة مركبة، ومن مكب النفايات عالمًا قائمًا بذاته مليئًا بالمعاناة والظلم.

رمزية الجرذان في العرض

الجرذان في “علبة كبريت” ليست مجرد كائنات تبحث عن الطعام في النفايات، بل هي تجسيد رمزي للقمع والاضطهاد. إنها أصوات صامتة تصرخ من أجل لفت الانتباه إلى وجودها، وإلى الظلم الذي تعيشه. هذه الكائنات الصغيرة، التي غالبًا ما تُعتبر مقززة وغير مرغوب فيها، تتحول في العرض إلى أبطال يمثلون كل من تم تهميشه وتجاهله في المجتمع. العرض يبرز هشاشة هذه الشخصيات وقسوة الظروف التي تحيط بها، وكيف يصارعون من أجل البقاء في عالم لا يكترث لأحلامهم أو آمالهم.

تصاعد الأحداث: من علبة الكبريت إلى إرث الاستغلال

تتصاعد حبكة الأحداث تدريجيًا، مع الكشف عن الشخصيات المختلفة التي تشكل هذا العالم المترامي الأطراف. تبدأ القصة بعلبة الكبريت، التي ترمز إلى القدرة على إشعال التغيير، وعلى مواجهة الظلام. ثم نتعرف على جامعي القمامة، الذين يمثلون الطبقة العاملة المستغلة، والذين يعيشون في ظروف قاسية، ويكافحون من أجل توفير لقمة العيش لأسرهم.

استغلال العمال وتوريث القمع

العرض لا يكتفي بتصوير معاناة هؤلاء العمال، بل يكشف عن آليات الاستغلال التي يتعرضون لها. يبرز النص كيف أن من يسيطر على عالم القمامة يستغل مجهود الآخرين، ويؤسس قوته على حسابهم. والأكثر إثارة للقلق هو أن هذا الاستغلال يتم توريثه من جيل إلى جيل، مما يؤكد على استمرار دائرة القمع والظلم. هذا الجانب من العرض يوجه انتقادات لاذعة إلى الأنظمة الاجتماعية التي تسمح باستمرار هذه الممارسات اللاإنسانية.

السينوغرافيا المبتكرة: خراب من رحم الخراب

تعتبر السينوغرافيا في “علبة كبريت” من أبرز عناصر العرض، حيث تعتمد بشكل كامل على الركام والأحجار وأكياس القمامة. هذا التصميم المبتكر ليس مجرد خلفية للمشهد، بل هو جزء لا يتجزأ من القصة، ويعكس الواقع المرير الذي يعيشه الأبطال. السينوغرافيا أشبه بتضاريس حجرية متكدسة، تعيد تشكيل نفسها خلال المشاهد، لتبدو وكأنها خراب يُصنع من رحم الخراب.

تحويل النفايات إلى رموز بصرية

يبرع المخرج مازن الزدجالي في استخدام هذه العناصر البصرية لخلق تأثيرات قوية. فأكياس القمامة تتحول إلى رمز للثقل الاجتماعي الملقى على عاتق الشخصيات، بينما الأحجار تمثل العوائق والتحديات التي تواجههم في حياتهم اليومية. كما أن المشاهد الصغيرة التي ينسجها المخرج داخل العمل تحمل دلالات قوية، مثل المشهد الذي يتجمع فيه جامعي القمامة لفحص حمل وجدوه في النفايات، والمشهد الذي يلتقطون فيه بقايا قالب حلوى للاحتفال بذكرى زواج. هذه المشاهد تحول القمامة إلى مرايا تعكس حياة لا يعيشونها، وذكريات لا يمتلكونها.

صوت الجرذان: رؤية إخراجية جريئة

لم تقتصر الرؤية الإخراجية لمازن الزدجالي على الجانب البصري، بل امتدت لتشمل الجانب السمعي أيضًا. فقد عمل المخرج على إعادة تدوير الصوت، واستخدام آلات موسيقية مصنوعة من بقايا بلاستيكية لخلق إيقاعات وألحان فريدة. هذه الموسيقى، التي تتولد من البقايا والفائض المنسي، تعزز من تأثير العرض، وتؤكد على فكرة انتزاع الحياة من قلب العدم. المسرح التجريبي يجد في هذا العرض نموذجًا يحتذى به.

الختام: انهيار العالم وصوت المقموعين

في الختام، تنهال أكياس القمامة من الأعلى إلى المسرح، لنشعر وكأن سقف العالم ينهار، ويسقط الضحية والجلاد في حفرة واحدة. هذا المشهد الرمزي يختتم العرض برسالة قوية، تؤكد على أن الطغيان يورّث من جيل إلى جيل، بينما يبقى المقموعون يبحثون عن مساحة لالتقاط الأنفاس بين أكياس تلقى فوق رؤوسهم كل يوم. “علبة كبريت” ليس مجرد عرض مسرحي، بل هو صرخة احتجاج، ودعوة إلى التغيير، وتذكير بأهمية إعطاء صوت لمن لا صوت لهم. العرض يمثل فن الأداء في أبهى صوره.

شارك في التمثيل سيف اللمكي، وهزاع المقبالي، وأحمد مستهيل، ومؤيد الشكيلي، ومحمد الحبسي. وعبّر الممثل أحمد مستهيل عن صعوبة الدور الذي لعبه، وكيف تطلب منه جهدًا بدنيًا كبيرًا، وفقدانًا للوزن. أما المخرج مازن الزدجالي فقد أكد على سعيه لتقديم العمل بأفضل ما لديه، وإيصال صوت الجرذان من خلاله.

شاركها.
Exit mobile version