لم يعد الذكاء الاصطناعي في الطب ضيفاً تجريبياً، ولا فكرةً مستقبلية تُناقَش في مؤتمرات النخبة. لقد دخل العيادة بهدوء، وجلس إلى جوار الطبيب دون معطف أبيض، وبدأ يشارك في قراءة الأشعة، واقتراح خطط العلاج، وكتابة ملاحظات السجل الطبي، وأحياناً في ترتيب أولويات المرضى أنفسهم. هذا التحول السريع يثير تساؤلات جوهرية حول دور الطبيب، وحقوق المريض، والمسؤولية الأخلاقية في عصر تتزايد فيه قدرات الآلات.
مستقبل الرعاية الصحية: دور الذكاء الاصطناعي المتنامي
لم يعد الحديث عن إمكانات الذكاء الاصطناعي في الطب مجرد تنبؤات، بل واقعاً ملموساً. من خلال تحليل كميات هائلة من البيانات الطبية، يمكن للخوارزميات اكتشاف أنماط وعلاقات قد تفوت العين البشرية، مما يؤدي إلى تشخيصات أسرع وأكثر دقة، وخطط علاجية مخصصة، وحتى اكتشاف أدوية جديدة. هذا التطور يَعِدُ بثورة في مجال الرعاية الصحية، وتحسين جودة حياة الملايين. لكن مع هذا التقدم، تبرز تحديات أخلاقية وقانونية تتطلب منا معالجتها بجدية.
تساؤلات أخلاقية حول استخدام الذكاء الاصطناعي في التشخيص والعلاج
مع هذا الدخول الصامت للذكاء الاصطناعي، وُلد سؤال أكبر من التقنية ذاتها: ما الذي يجب أن يعرفه المريض؟ ومَن يضمن عدالة القرار؟ ومَن يتحمّل الخطأ إن وقع؟ هذه ليست أسئلة فلسفية مجردة، بل أسئلة أخلاقية يومية، يواجهها الطب الحديث في عام 2025، في غرف الطوارئ، وعيادات الأورام، ومراكز الأشعة، وحتى في التطبيقات الصحية التي يحملها المرضى في جيوبهم. الشفافية في استخدام هذه التقنيات أصبحت ضرورة ملحة.
المسؤولية المشتركة: من يتحمل تبعات القرار؟
في الطب التقليدي، كانت المسؤولية واضحة نسبياً: الطبيب يشخّص، ويقرّر، ويتحمّل تبعات قراره. أما في الطب المدعوم بـ الذكاء الاصطناعي، فقد أصبح القرار مشتركاً، ولكنه غير متكافئ: خوارزمية تقترح، وطبيب يراجع أو يثق، ومريض لا يرى إلا النتيجة. فإذا أخطأت الخوارزمية في قراءة صورة، أو بالغت في تقدير خطر، أو تجاهلت متغيراً نادراً… من يُسأل؟ هل هو الطبيب الذي اعتمد عليها؟ أم المستشفى الذي اشترى النظام؟ أم الشركة التي درّبت الخوارزمية على بيانات غير مكتملة؟ هنا، لا يكفي أن نقول إن الذكاء الاصطناعي «أداة مساعدة»، فالأداة التي تُغيّر مسار قرار علاجي قد تُغيّر مصير إنسان.
عدالة الخوارزمية: هل نحن حقاً محايدون؟
يُروَّج للذكاء الاصطناعي بوصفه أكثر عدالة من البشر، لأنه لا يتعب ولا يتحيّز عاطفياً، لكن الحقيقة العلمية تقول شيئاً أكثر تعقيداً: الخوارزمية ترث تحيّزات البيانات التي دُرِّبت عليها. فإذا كانت البيانات تمثّل فئات عمرية أو عرقية أو جغرافية دون غيرها، فإن القرار الناتج قد يكون دقيقاً لفئة… وخاطئاً لأخرى. وهذا يطرح سؤالاً حاسماً حول التحيز في الذكاء الاصطناعي، وكيف يمكننا ضمان أن تكون هذه التقنيات عادلة للجميع.
وإذا كانت أنظمة الذكاء الاصطناعي الطبية تُدرَّب في بيئات صحية غربية متقدمة، فهل تكون قراراتها عادلة حين تُستخدم في سياقات صحية مختلفة في العالم العربي أو الدول النامية؟ العدالة هنا ليست شعاراً أخلاقياً، بل شرط علمي وسريري. خوارزمية غير عادلة قد تكون أخطر من طبيب متعب.
حق المريض في المعرفة والشفافية
أحد أكثر الأسئلة حساسية اليوم هو: هل يحق للمريض أن يعرف أن قرار علاجه أسهم فيه ذكاء اصطناعي؟ أخلاقياً، يميل الجواب إلى «نعم»، فالمريض ليس مجرد متلقٍّ للعلاج، بل شريك في القرار، ومن حقه أن يعرف كيف صُنِع هذا القرار، وبأي أدوات، وعلى أي افتراضات.
لكن الواقع السريري أكثر تعقيداً. لا أحد يريد أن يُربك المريض بتفاصيل تقنية لا يفهمها، أو أن يُضعف ثقته بالعلاج، أو أن يحوّل العيادة إلى قاعة شرح خوارزميات. هنا يظهر التحدي الحقيقي: كيف نُفصح دون أن نُرهق؟ وكيف نُصارح دون أن نُقلق؟ الطريق الأخلاقي ليس في الصمت، ولا في الإغراق بالمصطلحات، بل في الإفصاح الذكي: أن يُقال للمريض، بلغة إنسانية بسيطة، إن النظام ساعد الطبيب في التحليل، لكن القرار النهائي بقي بيد الإنسان، وتحت مسؤوليته.
تحديات إضافية: الكسل المعرفي والمساءلة القانونية
مع ازدياد دقة الأنظمة الذكية، يواجه الأطباء خطراً صامتاً لا يُناقَش كثيراً: الكسل المعرفي. إذ حين يعتاد الطبيب على أن «الخوارزمية لا تخطئ»، قد يتراجع دوره من ناقد علمي إلى مُصدِّق تقني. وهنا لا يصبح الذكاء الاصطناعي مساعداً، بل سلطة خفية. الطب، في جوهره، ليس قراءة أرقام فقط، بل فهم سياق: مريض قلق، تاريخ اجتماعي، عوامل نفسية، تفاصيل لا تظهر في البيانات.
إذا حدث الخطأ، يبدأ السؤال الأصعب: مَن يُحاسَب؟ القوانين الصحية في معظم دول العالم لم تُصمَّم لعصر تشارُك القرار بين الإنسان والآلة. فلا هي تُدين الخوارزمية، ولا تُعفي الطبيب، ولا تُحدِّد بوضوح مسؤولية الشركات المطوِّرة. هذا الفراغ القانوني ليس تفصيلاً إدارياً، بل خطر أخلاقي حقيقي.
الخلاصة: نحو استخدام مسؤول للذكاء الاصطناعي في الرعاية الصحية
الذكاء الاصطناعي في الطب ليس شراً ولا خلاصاً. إنه مرآة لما نضعه فيه: بياناتنا، وقيمنا، وانحيازاتنا. فإن قُدِّم بلا أخلاق، تحوّل إلى أداة باردة، وإن وُضع في يد طبيب بلا مساءلة، أصبح سلطة صامتة. وإن أُدير بحكمة، أعاد للطب جوهره الأصيل: أن يُنقذ الإنسان دون أن يُلغيه.
وكما قال ابن سينا قبل ألف عام: «العلم بلا ضمير خطر على النفس». وفي عصر الخوارزميات، لعل أخطر ما نخسره ليس الخطأ التقني… بل أن ننسى أن الطب، في النهاية، فعل رحمة قبل أن يكون قراراً ذكياً. يجب أن نركز على تطوير أنظمة ذكاء اصطناعي شفافة، عادلة، وقابلة للمساءلة، وأن نضمن أن الطبيب يظل دائماً في قلب عملية صنع القرار.

