في الأسابيع التي سبقت غزو العراق عام 2003، كانت المنطقة على أعتاب تحول تاريخي. لم يكن الغزو مجرد حدث عسكري، بل لحظة كسر عميقة في بنية الإقليم، وفي طريقة إدارة الغرب لعلاقته بالشرق الأوسط. والوثائق البريطانية التي أُفرج عنها مؤخرًا، وخاصة تلك المتعلقة بالتواصل السياسي مع عمّان، تقدم نافذة فريدة لفهم تلك اللحظة من داخل غرف صنع القرار، وليس فقط من خلال نتائجها اللاحقة. هذه الوثائق تلقي الضوء على الدبلوماسية المعقدة والتحركات السياسية التي سبقت الحرب، وتكشف عن المخاوف والتوقعات التي كانت لدى الأطراف المعنية.

الوثائق البريطانية: خريطة ذهنية للحرب

هذه الوثائق لا تُقرأ ببساطة كمحاضر اجتماعات أو سجلات تقنية للقاءات. بل هي بمثابة خريطة ذهنية لعقل دولة كبرى وهي تستعد للحرب، وعقل دولة إقليمية تحاول، في حدود ضيقة، أن تحافظ على دور السياسة، حتى لو كان مجرد اعتراض أخلاقي أو محاولة أخيرة لتقليل الأضرار. إنها تعكس عملية التفكير المعقدة التي كانت تجري في لندن وعمّان في تلك الفترة الحرجة.

لقاء بلير والملك عبدالله الثاني: لحظة ضغط سياسي

اللقاء الذي جمع رئيس الوزراء البريطاني آنذاك، توني بلير، بالملك عبدالله الثاني في لندن في فبراير 2003، لم يكن مجرد لقاء مجاملة أو بروتوكولي. بل كان لحظة ضغط سياسي حقيقي، تداخلت فيها الحسابات الاستراتيجية الكبرى مع المخاوف الإقليمية المباشرة. وظهرت فيه الفجوة بوضوح بين منطق القوة الذي دفعت إليه الولايات المتحدة وبريطانيا، ومنطق الاستقرار الذي كان يمثله الموقف الأردني. هذا اللقاء يمثل نقطة محورية في فهم الديناميكيات الإقليمية في تلك الفترة.

طبيعة الوثيقة وما تقوله عن عقل الدولة

أول ما يلفت الانتباه في هذه الملفات هو طبيعة الوثائق نفسها. فجزء كبير منها ليس محاضر اجتماعات رسمية، بل أوراق تحضيرية أعدها مكتب رئيس الوزراء البريطاني قبل اللقاءات. هذه الأوراق، التي كتبها السكرتير الخاص ورئيس الديوان السياسي لرئيس الوزراء جوناثان باول، لا تنقل بالضرورة ما قيل، بل ما كان متوقعًا أن يُقال، وما كان ينبغي لرئيس الوزراء أن يكون مستعدًا لسماعه أو التعامل معه. هذا يكشف عن مدى إدراك لندن لأهمية فهم مواقف حلفائها الإقليميين، والاستعداد للتعامل مع أي اختلافات في الرأي.

في إحدى هذه الوثائق، ورد توصيف مباشر لطبيعة الحديث المتوقع من الجانب الأردني، حيث يشير النص إلى أن الملك من المرجح أن يثير ملف العراق، ويبحث عن مخرج سياسي لتفادي الحرب. وكتب معد الوثيقة: “The King is likely to want to discuss Iraq, including the possibility of offering Saddam exile as a way of avoiding war”. هذا الاقتباس يعكس إدراكًا بريطانيًا مسبقًا لطبيعة المقاربة الأردنية، وهي مقاربة لا تتحدى ميزان القوى، ولكنها تحاول إعادة إدخال السياسة إلى لحظة كانت على وشك الانغلاق.

التوقع والتحليل وحدود الذهن السياسي

انتقل معد الوثيقة من التوقع إلى التحليل الشخصي، مستخدمًا لغة ذهنية وليست تقريرية. وكتب: “He may also have a hankering for a Hashemite role in post-Saddam Iraq”. هنا تظهر بوضوح طبيعة التفكير داخل المكاتب البريطانية، وهو ليس مجرد نقل قول أو استناد إلى موقف معلن، بل قراءة ذهنية لاحتمال، تعكس انشغال لندن المبكر بسؤال ما بعد صدام، وبالفراغ السياسي الذي سيتركه سقوطه. هذا يعكس قلقًا بنيويًا من اليوم التالي للحرب، أكثر مما يعكس طرحًا سياسيًا من الجانب الأردني.

وتزداد هذه الصورة وضوحًا عند الانتقال إلى قسم نقاط الحديث، حيث تُدرج هذه الفكرة تحت بند مشروط صريح: “On Hashemite revival (if raised)”. وجود عبارة “إذا طُرحت” هنا ليس تفصيلاً لغويًا، بل مفتاح قراءة، يؤكد أن الفكرة ليست مطروحة على الطاولة، ولا جزءًا من النقاش المتوقع، بل احتمال افتراضي جرى إدراجه احتياطًا، ويتبعه مباشرة توجيه لبلير بتفادي هذا المسار، وتأكيد أن مستقبل العراق شأن يقرره العراقيون أنفسهم. هذا يعكس حساسية بريطانية مبكرة تجاه أي حديث عن هندسة الحكم في العراق من الخارج.

من الذهن إلى الطاولة: تفاصيل الاجتماع

عند الانتقال من الوثائق التحضيرية إلى ملخص الاجتماع الرسمي الذي أُعد بعد اللقاء، تتغير النبرة بشكل كامل. هنا تختفي التوقعات والتحليلات، ويظهر ما قيل فعلاً، مما يجعل هذه الوثيقة بالذات مفتاح القراءة السياسية. في ملخص الاجتماع المؤرخ في 26 فبراير 2003، يبرز إصرار أردني واضح على البحث عن حل سياسي حتى اللحظة الأخيرة. وتسجل الوثيقة أن الملك طرح خيار عرض المنفى على الرئيس العراقي صدام حسين بوصفه مخرجًا سياسيًا لتفادي الحرب، وتنقل العبارة التالية: “If Saddam accepted exile, there would be no need to fire a single shot”. هذا الاقتباس لا يعكس تفصيلاً تكتيكيًا، بل يلخص فلسفة كاملة في التعامل مع الأزمة، وهي فلسفة ترى أن تفادي الحرب هدف بحد ذاته.

العراق في سياقه الإقليمي: الربط بالقضية الفلسطينية

ما يلفت في ملخص الاجتماع أيضًا هو أن العراق لم يُناقش بوصفه ملفًا منفصلاً، بل وُضع ضمن سياق إقليمي أوسع. وتسجل الوثيقة ربطًا مباشرًا بين الحرب المحتملة على العراق والقضية الفلسطينية، حيث ورد تحذير الملك من تداعيات أي صراع جديد في المنطقة: “Any new conflict in the region would have serious repercussions on the Palestinian issue and wider regional stability”. هذا الربط يعكس ثباتًا في الخطاب الأردني، فالعراق ليس معزولاً عن فلسطين، والحرب عليه لن تُقرأ كعملية جراحية محدودة، بل كحلقة جديدة في سلسلة أزمات تُدار بالقوة.

بريطانيا بين القرار والوعي بالكلفة

تكشف الوثائق عن موقع بريطاني مركب، حيث كانت لندن قد حسمت خيارها بالوقوف إلى جانب الولايات المتحدة، ولكنها كانت في الوقت نفسه واعية بالكلفة الإقليمية للحرب. هذا الوعي لا يظهر في تغيير القرار، بل في الحرص على الاستماع، وتدوين التحذيرات، وتسجيل الانطباعات. لغة الملخصات تعكس هذا التوازن، فهي لغة هادئة ومحسوبة، تخلو من الانفعال، ولكنها لا تخفي الفجوة بين منطق القوة ومنطق الاستقرار.

الوثيقة كسجل لمحاولة دبلوماسية

عند قراءة هذه الرسائل مجتمعة، تتحول الوثائق البريطانية–الأردنية عشية الغزو إلى سردية متكاملة عن لحظة سياسية فاصلة. ليست سردية بطولة ولا سردية فشل، بل سردية محاولة، محاولة لإبقاء السياسة حاضرة، ومحاولة لتقليل الكلفة، ومحاولة لتسجيل موقف أخلاقي في مواجهة قرار عسكري كان يتقدم بثبات. قراءة هذه الوثائق اليوم، بعد مرور عقدين، لا تعيد كتابة تاريخ الغزو، ولكنها تعيد التذكير بأن ما سبق الحرب لم يكن صمتًا، بل حوارًا متوترًا، ورسائل متبادلة، وقلقًا عميقًا من اليوم التالي.

في المحصلة، لا تُقرأ الرسائل البريطانية–الأردنية عشية غزو العراق كمحاضر قرار، بل كشهادة على لحظة كان فيها البديل مطروحًا، حتى وإن لم يُكتب له أن ينتصر، وعلى فارق عميق بين من رأى في القوة أداة حسم، ومن رأى في السياسة مسؤولية لا تسقط حتى في أحلك اللحظات. هذه الوثائق تقدم رؤى قيمة حول غزو العراق، والدور الذي لعبته الدبلوماسية الأردنية في محاولة منع الحرب، وتأثير هذا الحدث على الشرق الأوسط. كما أنها تسلط الضوء على أهمية فهم السياق الإقليمي عند اتخاذ القرارات المتعلقة بالالأمن الإقليمي.

المصدر: مجلة “المجلة”

شاركها.
Exit mobile version