في عام 1999، قدم الثلاثي محفوظ عبد الرحمن كاتبًا، وإيناس محمد علي مخرجة، وصابرين ممثلة، مسلسل “أم كلثوم”، المأخوذ عن قصة حياة سيدة الغناء العربي، وليس سيرة ذاتية لها بالمعنى الحرفي. كان الهدف من هذا العمل هو تقديم قراءة بانورامية للقضايا الحضارية الكبرى التي شكلت دخول المجتمع المصري إلى المدنية الحديثة مع بداية القرن العشرين – قرن التحولات الهائلة – بعد خروجه من عباءة الاحتلال العثماني المريض والميراث المملوكي البالي. والآن، وبعد مرور سنوات، يطرح فيلم “الست” رؤية جديدة ومختلفة لحياة هذه القامة الفنية، مما يثير تساؤلات حول الغرض من هذه الأعمال الفنية وكيفية تمثيلها للتاريخ والشخصيات المؤثرة.
رؤية “أم كلثوم” الأصلية: التاريخ كمُعيش للتحولات
تجسدت رؤية صُنّاع مسلسل “أم كلثوم” في توظيف تاريخ هذه الفنانة العظيمة، التي انطلقت من قرية صغيرة في دلتا مصر بفضل صوتها وموهبتها، لتُظهر كيف أن التغيرات الاجتماعية والسياسية والثقافية التي شهدتها مصر في تلك الفترة هي التي أتاحت لها الصعود والنجاح. لم يكن التركيز على التفاصيل الشخصية بقدر ما كان على السياق التاريخي الأوسع. فبدون الانفتاح الليبرالي، وتأسيس الجامعة، وصياغة دستور 1923، وبروز النخب الفكرية والفنية، لم يكن لثومة، الفتاة المتواضعة، أن تصبح “كوكب الشرق”. هذا العمل لم يقدم سيرة ذاتية مملة، بل درامة تاريخية تعكس صعود أمة مع صعود نجمة.
“الست”: التحرير والتقويض.. وراء الكواليس الدرامية
ينطلق فيلم “الست” من فكرة مشابهة، وهي استكشاف حياة أم كلثوم، ولكن من خلال زاوية مختلفة. يركز الفيلم على علاقة أم كلثوم بالرجال، وكيف أنهم شكلوا جزءًا كبيرًا من رحلتها الصعبة نحو النجومية. يبدو أن الفيلم يتبنى فكرة تقويض الصورة التقليدية للرجال في حياة أم كلثوم، حيث يتم تصويرهم على أنهم معوقون أو مزعجون أو أنانيون. هذه الرؤية تثير جدلاً واسعًا حول مدى دقتها التاريخية، وهل هي مجرد تأويل فني يهدف إلى إبراز قوة المرأة؟
بناء درامي مُستوحى من تجارب سابقة
يتضح أن البناء الدرامي لفيلم “الست” متأثر بشكل كبير بأعمال سابقة، مثل فيلم “حليم”. كلا الفيلمين يبدآن بلحظة سقوط، ثم يعودان إلى الماضي لاستعادة ذكريات الرحلة. استخدام هذه التقنية، رغم شيوعها، لا يزال فعالاً في خلق حالة من التشويق والترقب، ولكن بشرط أن تكون مدفوعة برؤية فنية واضحة. يبدو أن أحمد مراد، كاتب الفيلم، أراد أن ينطلق من لحظة سقوط أم كلثوم على المسرح، ليستكشف سقطات أخرى مشابهة، ولكنها سببها رجال مختلفون هذه المرة.
المحاكاة الشكلية والأرشيف: جدلية التمثيل والتاريخ
أحد أبرز جوانب فيلم “الست” هو الإصرار على المحاكاة الشكلية لشخصية أم كلثوم، من خلال المكياج ولغة الجسد وطبقة الصوت. بينما اعتمد مسلسل “أم كلثوم” على التهيئة البصرية لخلق الإيهام المطلوب، يغرق الفيلم في طوفان من الأرشيف المصور والمسجل. هذا الإغراق بالأرشيف قد يكون له تأثير سلبي على أداء الممثلة منى زكي، حيث يجبر المشاهد على المقارنة المستمرة بين الأصل والتمثيل، مما يكسر الإيهام ويفقد العمل جزءًا من تأثيره الدرامي.
الخلاصة: رؤية فنية أم مغامرة غير مبررة؟
في النهاية، يظل فيلم “الست” عملًا فنيًا يستحق المشاهدة والتحليل. ومع ذلك، يجب التساؤل عن مدى نجاحه في تحقيق الغرض الذي انطلق منه. هل نجح الفيلم في تقديم قراءة جديدة ومختلفة لحياة أم كلثوم؟ أم أنه اكتفى بتقويض الصورة التقليدية للرجال دون تقديم رؤية بديلة مقنعة؟ هل كانت رؤية الفيلم واضحة بما يكفي؟ وهل كان الأسلوب المستخدم مناسبًا لتحقيق هذه الرؤية؟ الجواب على هذه الأسئلة يختلف من مشاهد إلى آخر، ولكن الأكيد أن فيلم “الست” قد أثار جدلاً واسعًا سيظل يتردد طويلًا.
إذا كنت تبحث عن فهم أعمق لهذه القصة الفنية، أو مهتمًا بمناقشة الفيلم وتحليله، ندعوك لمشاركة أفكارك وتعليقاتك. استكشاف هذه الأعمال لا يقتصر على الترفيه، بل هو فرصة للتفكير في تاريخنا وثقافتنا ومكانة المرأة في المجتمع.


