طوّر باحثون من جامعة كيوشو اليابانية طريقة حسابية مبتكرة تحمل اسم ddHodge، والتي تمثل نقلة نوعية في فهم كيفية اتخاذ الخلايا لقرارات مصيرها، مثل التمايز إلى خلايا عصبية أو عضلية. هذه الطريقة الجديدة، التي تعتمد على مبادئ رياضية متقدمة، قادرة على إعادة بناء الديناميكيات المعقدة التي تحكم هذه العمليات الحيوية، وفتح آفاق جديدة في مجالات التطور الجنيني، وتجديد الأنسجة، وحتى فهم تطور الأمراض.

ddHodge: ثورة في فهم ديناميكيات الخلايا

نشرت نتائج هذه الدراسة الهامة في دورية Nature Communications، وأثارت اهتماماً واسعاً في الأوساط العلمية. فالسؤال حول كيفية اختيار الخلايا لمساراتها التطورية يعتبر من أعقد التحديات التي تواجه علم الأحياء والطب الحديث. خلال التطور الجنيني، أو عند إصلاح الأنسجة التالفة، تخضع الخلايا لتغيرات دقيقة في حالتها الوظيفية، تقودها في النهاية إلى مصير محدد. ولتتبع هذه التغيرات، يعتمد العلماء بشكل كبير على تقنية تسلسل الحمض النووي الريبي أحادي الخلية (single-cell RNA sequencing)، والتي تكشف عن الجينات النشطة داخل كل خلية على حدة.

قيود تقنية تسلسل الحمض النووي الريبي أحادي الخلية

على الرغم من قوة تقنية تسلسل الحمض النووي الريبي أحادي الخلية، إلا أنها تعاني من قيد أساسي: فهي تقنية “مدمرة” بمعنى أنها لا تتيح سوى الحصول على “لقطة ثابتة” لحالة الخلية في لحظة زمنية معينة، ولا يمكنها تتبع تطورها عبر الزمن. هذا القيد دفع الباحثين إلى تطوير أساليب حسابية جديدة تهدف إلى تجاوز هذه المشكلة، ومن بين هذه الأساليب تقنية “سرعة الحمض النووي الريبي” (RNA velocity)، والتي تستنتج الاتجاه المستقبلي القريب لحركة الخلية.

“حالة الخلية” والتحديات الحسابية

ومع ذلك، تواجه هذه المقاربات تحدياً جوهرياً، وهو أن “حالة الخلية” لا يمكن تعريفها بعدد محدود من المتغيرات، بل من خلال نشاط آلاف الجينات. هذا يعني أننا نتعامل مع فضاء عالي الأبعاد شديد التعقيد. لجعل البيانات قابلة للتحليل، غالباً ما تضطر الطرق التقليدية إلى ضغط هذا الفضاء إلى عدد أقل من الأبعاد، مما يؤدي إلى فقدان معلومات هندسية مهمة. ونتيجة لذلك، يصبح من الصعب التمييز بدقة بين خلية غير مستقرة وقابلة للتغير، وأخرى مستقرة وملتزمة بمصير محدد. هنا يأتي دور ddHodge.

كيف تعمل طريقة ddHodge؟

قدم الباحثان كازوميتسو ماهارا وياسويوكي أوكاوا إطار ddHodge كحل يحافظ على الهندسة الأصلية للبيانات عالية الأبعاد، ويتيح إعادة بناء ديناميكيات حالة الخلية بدقة أكبر بكثير من الطرق المتاحة سابقاً. يعتمد ddHodge على مفهوم رياضي متقدم يعرف بتحليل هودج (Hodge decomposition)، وهو مبرهنة قوية في الرياضيات الحديثة تسمح بتفكيك الحركة أو التدفقات في أي نظام معقد إلى مكونات أساسية قابلة للقياس.

مكونات تحليل هودج في سياق الخلايا

عند تطبيقها على بيانات الخلايا، يقسم إطار ddHodge حركة الخلايا عبر “منظر” الحالات الممكنة إلى ثلاثة مكونات رئيسية: التدرج (gradient)، والالتفاف (curl)، والمكون التوافقي (harmonic component). يمثل التدرج التدفق الاتجاهي العام الذي تقوده الخلايا نحو حالات مستقرة، بينما يعكس الالتفاف والمكون التوافقي الحركات الدورية أو الدورانية، مثل تلك المرتبطة بدورة الخلية. يؤكد ماهارا أن خلفيته في العلوم الإحصائية ساهمت بشكل كبير في تطوير هذه الفكرة، حيث تعرف على أسلوب هودج خلال دراسته العليا.

نتائج وتطبيقات ddHodge

يعتمد إطار ddHodge على تمثيل قائم على الرسوم البيانية لحالات الخلايا في فضاء عالي الأبعاد، مع الحفاظ على الهندسة المحلية للبيانات. هذا يسمح بقياس خصائص ديناميكية أساسية مثل الاستقرار والتباعد والمكونات الدورانية، دون التضحية بالمعلومات البنيوية الهامة. عند تطبيق ddHodge على بيانات تسلسل الحمض النووي الريبي أحادي الخلية لنحو 46 ألف خلية جنينية من الفأر، كشف الباحثون أن أكثر من 88% من ديناميكيات التعبير الجيني خلال المراحل المبكرة من التطور الجنيني يمكن تفسيرها بواسطة مكون التدرج وحده. هذا يدعم المفهوم الكلاسيكي في علم الأحياء التطوري بأن الخلايا تتمايز عبر التحرك نحو حالات مستقرة.

بالإضافة إلى ذلك، أظهرت الاختبارات أن ddHodge قادر على إعادة بناء ديناميكيات حالة الخلية بشكل موثوق حتى في وجود بيانات جزئية أو مشوشة، بدقة تفوق الأساليب التقليدية بنحو مئة مرة. هذا يبرز قوة الطريقة في التعامل مع التحديات الواقعية التي تواجه تحليل البيانات البيولوجية واسعة النطاق. فهم ديناميكيات الخلايا أصبح الآن أكثر دقة وشمولية بفضل هذه التقنية.

تطبيقات أوسع نطاقاً

لا تقتصر تطبيقات ddHodge على المجال الطبي الحيوي، بل يمكن توظيفها لفهم عمليات معقدة أخرى تتغير بمرور الزمن، مثل تدهور المواد، وأنماط المناخ، وحتى السلوكيات الاجتماعية والاقتصادية. في جميع هذه الحالات، تكمن المشكلة في التعامل مع بيانات ضخمة عالية الأبعاد. ddHodge يمثل مثالاً على كيفية توظيف مفاهيم من الرياضيات الحديثة لحل تحديات عملية في علوم الحياة وغيرها من المجالات. هذه التقنية الجديدة في تحليل البيانات البيولوجية تفتح الباب أمام رؤى جديدة.

في الختام، تمثل طريقة ddHodge تقدماً كبيراً في فهم ديناميكيات الخلايا، وتوفر أداة قوية للباحثين في مجالات متعددة. من خلال الحفاظ على تعقيد البيانات الأصلية، تتيح هذه الطريقة اكتشاف أنماط وعلاقات كانت ستظل خفية باستخدام الأساليب التقليدية. نتوقع أن يلعب ddHodge دوراً متزايد الأهمية في مسارات اكتشاف الأدوية، والصناعات الحيوية، وفي تعميق فهمنا للعمليات البيولوجية الأساسية. لمزيد من المعلومات حول تسلسل الحمض النووي الريبي أحادي الخلية، يمكنكم الرجوع إلى المصادر العلمية المتخصصة.

شاركها.
Exit mobile version