في اللحظة التي يدخل فيها العالم عامه الثالث بعد الإبادة الجماعية في غزة، يصبح اليوم العالمي للتضامن مع الشعب الفلسطيني اختباراً جديداً وصريحاً للضمير الإنساني وقدرته على الثبات في مواجهة منظومات القوة. فالمسألة لم تعد تمريناً على الخطابة الأخلاقية، ولا مناسبة بروتوكولية لإعلان النوايا، بل تحوّلت إلى محطة سياسية فاحصة: هل سيغدو العالم متضامناً مع قضية عادلة رغم ثقل موازين القوى، أم يظل طقساً سنوياً منزوع الأثر؟ هذا العام، يكتسب التضامن مع فلسطين معنى أعمق وأكثر إلحاحاً، خاصةً بعد الأحداث المروعة التي شهدها قطاع غزة.

إن الحفاظ على جذوة الحراك العالمي حيّة وفاعلة يتطلّب الانتقال من التضامن الرمزي والعاطفيّ إلى تأطير أجندة عالمية واضحة تُعيد تعريف أولوية إنهاء الاحتلال باعتبارها جوهر الصراع الفلسطيني–الإسرائيلي، ومفتاح التأسيس للاستقرار الإقليمي، وبوصلة الأخلاق السياسية في زمن تتهاوى فيه المعايير. يجب أن نتجاوز مجرد التعبير عن الإدانة إلى خطوات عملية وملموسة.

الاعتراف بالإبادة: ضرورة أخلاقية وقانونية

لا يمكن لأي تضامن أن يكون ذا معنى ما لم نسمِّ الفعل باسمه الحقيقي: الإبادة الجماعية. لقد شكل التردّد الدولي في وصف ما حدث في غزة بهذه الكلمة أحد العوامل الرئيسية التي سمحت باستمرار الاعتداءات. فـ دعم الشعب الفلسطيني يتطلب أولاً الاعتراف بمعاناته وتسمية جرائم الحرب التي ارتكبت بحقه.

هذا الاعتراف ليس مجرد موقف أخلاقي، بل هو أيضاً خطوة قانونية ضرورية لتفعيل آليات القانون الدولي. يجب العمل على ضمان الوقف الفوري والكامل لإطلاق النار، وحماية المدنيين، وفتح معابر الإغاثة و الإعمار لضمان وصول المساعدات الإنسانية العاجلة. بالإضافة إلى ذلك، يجب المطالبة بمحاسبة المسؤولين عن هذه الجرائم أمام المحاكم الدولية.

إعادة الاعتبار لحقيقة الصراع

أخطر ما أنتجته العقود الماضية هو تحويل القضية الفلسطينية إلى ملف إنساني محتمل، يتم التعامل معه كأزمة إغاثة وليست كقضية تحرر وطني. هذه محاولة لـ تغيير الرواية حول الصراع، وتهدف إلى إخفاء الأبعاد السياسية للظلم الذي يتعرض له الشعب الفلسطيني.

لقد تمكنت إسرائيل، مدعومةً بقوى كبرى، من تفريغ النقاش من مضمونه السياسي لصالح معالجات تقنية، مثل تسهيلات إدخال المساعدات أو تحسين شروط الحياة. لكن هذه المعالجات لا تعالج جوهر المشكلة، وهو الاحتلال المستمر للأراضي الفلسطينية.

لذلك، يجب أن يرتكز التضامن الدولي على إعادة تعريف البوصلة، وتوجيهها نحو إنهاء الاحتلال بكل ما يتضمنه من استيطان وحصار وفصل عنصري. هذا يعيد القضية إلى موقعها الطبيعي في القانون الدولي، باعتبارها قضية شعب يسعى للحرية وتقرير المصير.

عناصر إعادة الاعتبار

  • العقوبات والمقاطعة: يجب استخدام هذه الأدوات الشرعية ضد أي قوة تنتهك القانون الدولي.
  • نزع الشرعية: يجب العمل على نزع الشرعية عن النظام الاستعماري الاستيطاني من خلال خطاب ثقافي وأكاديمي وإعلامي عالمي.
  • تدويل الصراع: يجب تحويل الصراع من ملف أمريكي–إسرائيلي مغلق إلى قضية سياسية وأخلاقية كبرى.

دعم الفلسطينيين نحو تمثيل سياسي موحد

لا يمكن للعالم أن ينتصر لقضية شعبٍ بلا قيادة سياسية قادرة على حمل مشروعه الوطني. ولذا فإن أحد أعمدة التضامن الحقيقي هو الوقوف إلى جانب الفلسطينيين في نضالهم من أجل توحيد مؤسساتهم السياسية وتجديد شرعيتها، استناداً لرؤية واضحة وموحدة لإنهاء الاحتلال أولاً. هذا الدعم ليس تدخلاً في الشأن الداخلي، بل هو اعتراف بأن تحرر الشعوب مرهون بقدرتها على إنتاج تمثيل موحد يعكس إرادتها ويقود مشروعها التحرري.

إن تجديد التمثيل السياسي الفلسطيني يتطلب الشراكة في تحمل المسؤولية، ومساندة المجتمع بكل مكوناته، خاصةً تلك المتضررة من تبعات الانقسام. يجب تعزيز صمود الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية والقدس، وتمكينه من مواجهة مخططات الضم والتصفية. كما أن العودة لمكونات إعلان بكين باتت ضرورة وجودية، وخصوصاً فيما يتعلق بتشكيل حكومة وفاق انتقالية.

نحو تضامن حقيقي وفعال

خلال العامين الأخيرين، برهنت شعوب العالم أن الضمير الإنساني لم يمت. فرغم صمت القوى الكبرى وتواطئها، خرجت ملايين الأصوات في أنحاء العالم مطالبة بوقف الإبادة ودعم الحق الفلسطيني في الحرية.

لكن هذه المظاهرات والاحتجاجات يجب أن تتجاوز الغضب العاطفي العابر، وأن تتحول إلى حركة سياسية منظمة وفاعلة. يتطلب ذلك إرساء ثلاث حقائق:

  1. أن الإبادة جريمة مستمرة لا يمكن تجاهلها أو الالتفاف عليها.
  2. أن جوهر القضية يكمن في إنهاء الاحتلال الاستعماري العنصري.
  3. أن الشعب الفلسطيني قادر على قيادة مشروع تحرره إذا حظي بدعم حقيقي.

التضامن مع فلسطين اليوم ليس مجرد ذكرى سنوية، بل هو دعوة مفتوحة إلى عمل سياسي وأخلاقي يعيد الاعتبار لحقيقة الصراع، ويضع إنهاء الاحتلال وحق تقرير المصير في قلب أجندة العالم. إنه المدخل الوحيد لصنع سلام عادل ودائم.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

شاركها.
Exit mobile version