في السنوات الأخيرة، شهدت العلاقات بين الولايات المتحدة وأوروبا تحولاً ملحوظاً، خاصةً في مجال الدفاع الأوروبي. فمنذ تولي الرئيس دونالد ترامب منصبه، ترددت أصداء قلقه المتزايد بشأن عبء الدفاع عن أوروبا الذي تتحمله الولايات المتحدة، وهو ما أثار مخاوف عميقة في العواصم الأوروبية. هذه المخاوف لم تختفِ مع قرب عودة ترامب المحتملة للبيت الأبيض في عام 2025، بل دفعت الدول الأوروبية الكبرى إلى إعادة تقييم استراتيجياتها الدفاعية بشكل جذري، في ظل تصاعد التوترات مع روسيا والحرب المستمرة في أوكرانيا. يهدف هذا المقال إلى تحليل هذه الديناميكيات المتغيرة وتداعياتها على مستقبل الأمن الأوروبي، مع التركيز على جهود كل من المملكة المتحدة وألمانيا لتعزيز قدراتهما الدفاعية.
تزايد المخاوف الأوروبية من مستقبل التعاون الأمني مع واشنطن
لطالما شكل حلف شمال الأطلسي (الناتو) حجر الزاوية في الأمن الأوروبي، حيث اعتمدت القارة على المظلة الأمنية الأمريكية لعقود. ومع ذلك، فإن خطاب الرئيس ترامب المتكرر حول “تقاسم الأعباء بشكل عادل” أثار شكوكاً حول مدى التزام الولايات المتحدة المستقبلي بالتحالف. هذا النقاش تصاعد مع الحرب في أوكرانيا، مما أدى إلى تساؤلات حول ما إذا كانت واشنطن ستواصل تقديم الدعم العسكري والمالي اللازم لأوروبا في مواجهة التهديد الروسي المتزايد.
المراجعة الاستراتيجية للدفاع البريطاني: طموحات تواجه صعوبات مالية
أدركت المملكة المتحدة الحاجة إلى تعزيز قدراتها الدفاعية بشكل مستقل، وأطلقت مراجعة استراتيجية للدفاع في عام 2023. تهدف هذه المراجعة إلى إحداث تحول جذري في كيفية تصميم وبناء وتشغيل القوات المسلحة البريطانية، لتلبية التحديات الأمنية المتغيرة. ولكن، كما يشير تحليل نشر مؤخرًا عن طريق تشاتام هاوس، تواجه المراجعة عقبات كبيرة، أبرزها نقص التمويل.
التحديات المالية والقيود على الإنفاق
تعاني بريطانيا من ظروف اقتصادية صعبة، مع نمو اقتصادي ضعيف وتزايد الضغوط على القطاع العام. بالإضافة إلى ذلك، توجد قيود صارمة على زيادة الضرائب والاقتراض الحكومي، مما يجعل من الصعب تخصيص الأموال اللازمة لتنفيذ التوصيات الطموحة للمراجعة الاستراتيجية. في حين أن المراجعة حددت جدولاً زمنياً لمدة 10 سنوات لتحقيق الأهداف الدفاعية، فإن نقص التمويل يعيق التقدم، حيث يضطر القادة إلى البحث عن وفورات قصيرة الأجل وتأجيل بعض المشاريع الرئيسية.
ألمانيا تسعى لقيادة عسكرية في أوروبا
في المقابل، تتخذ ألمانيا خطوات سريعة لتصبح القوة العسكرية التقليدية الرائدة في أوروبا. تعهد المستشار الألماني فريدريش ميرتس بتحويل الجيش الألماني إلى “أقوى جيش تقليدي في أوروبا”، وتخطط الحكومة لزيادة الإنفاق الدفاعي بشكل كبير.
خطط الإنفاق الضخمة وآفاق القوة العسكرية الألمانية
تعتزم ألمانيا إنفاق 3.5% من الناتج المحلي الإجمالي على الدفاع بحلول عام 2029، وهو ما يعادل 162 مليار يورو سنوياً. بالإضافة إلى ذلك، خصصت البلاد 649 مليار يورو على مدى السنوات الخمس المقبلة، 400 مليار منها سيتم تمويلها من خلال الاقتراض الحكومي. هذا الاستثمار الضخم سيسمح لألمانيا بتحديث قواتها المسلحة وشراء معدات جديدة، مما يعزز بشكل كبير قدراتها الدفاعية. ومع ذلك، يرى البعض أن تركيز ألمانيا على المعدات التقليدية قد يكون محدودًا في مواجهة التهديدات الحديثة، مثل الحرب السيبرانية والأسلحة عالية التقنية.
التكامل بين بريطانيا وألمانيا: مستقبل الدفاع الأوروبي
يشير الخبراء إلى أن التعاون الوثيق بين المملكة المتحدة وألمانيا هو مفتاح تعزيز الدفاع الأوروبي. ففي حين تمتلك بريطانيا رؤية طموحة لتطوير القدرات الدفاعية، تواجه صعوبات مالية في تنفيذ هذه الرؤية. أما ألمانيا، فلديها القدرة المالية اللازمة، لكنها قد تحتاج إلى مساعدة في تحديد أولويات الاستثمار وتحديث استراتيجياتها العسكرية.
يعتقد الجنرال سير ريتشارد بارنسون أن الجمع بين “التفكير البريطاني” و”القدرة المالية الألمانية” يمكن أن يؤدي إلى بناء منظومة دفاعية فعالة في أوروبا. من خلال الاستفادة من نقاط القوة لدى كل دولة، يمكن للبلدين تحقيق نتائج أفضل من العمل بشكل منفصل. بالتالي، يمكن لتعاون أعمق أن يساهم في تحقيق الاكتفاء الذاتي في الأمن الأوروبي ويقلل الاعتماد على الولايات المتحدة.
الخلاصة
مع تزايد الشكوك حول مستقبل التعاون الأمني مع واشنطن، تواجه أوروبا تحديًا كبيرًا في تعزيز الدفاع الأوروبي. تمثل جهود كل من المملكة المتحدة وألمانيا خطوات مهمة في هذا الاتجاه، ولكن النجاح يعتمد على قدرتهما على التغلب على الصعوبات المالية والاستراتيجية. إن التكامل الأعمق بين البلدين والتركيز على الاستثمار الذكي والشراكات الصناعية الجديدة يمكن أن يمهد الطريق لمستقبل أكثر أمانًا واستقلالية لأوروبا. يجب على القادة الأوروبيين الاستمرار في الحوار والعمل معًا لإيجاد حلول مبتكرة للتحديات الأمنية المتزايدة، وتعزيز دور أوروبا كشريك قوي وموثوق به في الأمن العالمي.


