بعد مرور ثلاثة عقود على انتهاء نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا، تجد البلاد نفسها على مفترق طرق، حيث تتآكل أسس الديمقراطية في جنوب إفريقيا وتفقد قيمها الأساسية. هذا التدهور، الذي يثير قلقاً متزايداً، يرجع إلى حد كبير إلى سياسات وإدارة حزب المؤتمر الوطني الإفريقي (ANC)، الحزب الذي قاده نيلسون مانديلا نحو الحرية. تشير استطلاعات الرأي المتزايدة إلى حالة من عدم الرضا المتجذرة لدى الشعب، بل وتفضيل بدائل قد تبدو متناقضة مع نضالات الماضي.
تآكل الثقة: استطلاعات الرأي الصادمة
كشف استطلاع حديث لمؤسسة «أفرو باروميتر» ونُشر في صحيفة «التايمز» البريطانية عن نتائج صادمة. يفضل ما يقرب من نصف سكان جنوب إفريقيا الآن «الحكم العسكري» على الديمقراطية، وهي نسبة مذهلة تعكس عمق الإحباط. سبعة من كل عشرة أشخاص أعربوا عن عدم رضاهم عن أداء النظام الديمقراطي الحالي، ما يُظهر فقداناً للثقة في المؤسسات والعمليات السياسية.
هذا التوجه ليس مجرد انعكاس للمشاكل الاقتصادية، بل هو اعتراف بالتقصير الحكومي في توفير الخدمات الأساسية. تعاني جنوب إفريقيا من نقص مزمن في الكهرباء، وارتفاع معدلات البطالة، وأزمات متكررة في إمدادات المياه، بينما ازدهر الفساد والرشوة ليصبحا جزءاً لا يتجزأ من الحياة السياسية.
حزب المؤتمر الوطني الإفريقي وأزمة الولاءات
تكمن أكبر مأساة في هذا السياق في أن الأزمة ليست مجرد مادية، بل هي قبل كل شيء أزمة أخلاقية. لقد دمر حزب المؤتمر الوطني الإفريقي، بتصرفاته، الإيمان بأن الديمقراطية يمكن أن تكون أداة فعالة لتحسين حياة الفقراء. هذا الإيمان محل سخرية ويأس، وبدأ يفسح المجال لحنين إلى «الرجل القوي» الذي يفرض النظام والسيطرة.
في محاولة يائسة لمعالجة الوضع، عقد الرئيس سيريل رامافوزا اجتماعاً حاشداً مع 6000 من قادة الحزب في جوهانسبرغ، حيث انتقد بشدة أدائهم. حذرهم رامافوزا قائلاً: “إما تقديم الخدمات أو التنحي!”، وطالب بوقف «التزوير»، لكن يبدو أن كلماته لم تلقَ الصدى المتوقع، واعتبرها البعض مجرد خطاب حماسي بلا جدوى.
الفساد والديون: واقع البلديات المحلية
إن حجم المشكلة يتجلى بوضوح في أداء البلديات المحلية. فمن بين 257 بلدية في جنوب إفريقيا، لم يحصل سوى 13% منها على شهادة مراجعة حسابات نظيفة في عام 2024. الغالبية العظمى، والتي يدير الكثير منها حزب المؤتمر الوطني الإفريقي، غارقة في الديون والفساد. حتى محاولات رامافوزا لمدح البلديات التي تديرها المعارضة قوبلت بالاستياء من داخل حزبه، مما يوحي بأن مجرد الاعتراف بالفشل أصبح يعتبر “خيانة”. هذه الديناميكية تعيق أي حيلة إصلاح حقيقية.
من الثورة إلى المحسوبية: تحول الأولويات
لقد تحول حزب المؤتمر الوطني الإفريقي، على نحو مأساوي، من قوة للتقدم إلى آلة للمحسوبية والزبائنية. فبدلاً من اختيار الأفراد بناءً على الكفاءة والجدارة، أصبحت سياسة “توزيع الكوادر” هي السائدة. هذا يعني أن الولاء الحزبي هو الذي يضمن الحصول على المناصب، غالبًا على حساب الكفاءة والخبرة. “الثورة الديمقراطية الوطنية”، التي كانت تمثل المرحلة الأولى من التحرير، تحولت إلى ما يصفه الجنوب أفريقيون بمرارة بـ “الطريق الطويل إلى مائدة الطعام”، وهو مسار لا نهاية له من الارتقاء بالمرتبطين بالحزب إلى السلطة والثروة.
الاشتراكية المؤجلة واستيلاء الحزب على الدولة
المرحلة الثانية من الثورة، والتي كان من المفترض أن تؤدي إلى نظام اشتراكي أكثر عدالة، لم تتحقق قط. بدلاً من ذلك، شهدت جنوب إفريقيا استيلاء الدولة على السلطة، ليس لصالح الطبقة العاملة، بل لصالح حزب المؤتمر الوطني الإفريقي وأتباعه. ارتكب هذا التحول خطأً فادحاً: الاستفادة من القلة على حساب الكثرة. النتيجة هي تفاقم الفقر، وارتفاع معدلات الجريمة، وتدهور الخدمات العامة، وفقدان الأمل في مستقبل أفضل.
إرث الفصل العنصري والتحديات المستقبلية
كما أشار الكاتب والمفكر الجنوب إفريقي ويليام جوميد، فإن بلاده تعاني اليوم بسبب “تصويت الناس مراراً وتكراراً لأشخاص لديهم سجل حافل بالفشل والفساد وعدم الكفاءة”. هذا الإرث المأساوي للفصل العنصري، بالإضافة إلى ثقافة الولاء الأعمى، يمثل تحديًا كبيرًا أمام الديمقراطية في جنوب إفريقيا. لطالما كان التصويت لأي حزب بخلاف حزب المؤتمر الوطني الإفريقي بمثابة أمر غير مقبول اجتماعياً، لكن العواقب الوخيمة لهذه الثقة العمياء واضحة في كل مكان: نقص المياه، تفشي الجريمة، ارتفاع معدلات البطالة، وانهيار الخدمات الأساسية. لقد حل اليأس والإحباط محل الوعد الأصلي بالديمقراطية، وأصبح هذا التحول واقعاً ملموساً. كما يلعب الفساد في جنوب إفريقيا دوراً رئيسياً في هذا التدهور.
هل من أمل لمستقبل ديمقراطي؟
إن مستقبل الديمقراطية في جنوب إفريقيا يتوقف على قدرة الحزب الحاكم على مواجهة هذه التحديات بجدية وشفافية. يجب أن تتجاوز الإصلاحات مجرد الخطابات والشعارات، وأن تركز على معالجة الأسباب الجذرية للفساد، وتعزيز المساءلة، وإعطاء الأولوية لرفاهية المواطنين. بدون تغييرات جذرية، قد يستمر هذا المسار نحو فقدان الثقة واليأس، وربما يؤدي إلى مزيد من عدم الاستقرار السياسي والاجتماعي. التحدي الآن ليس فقط استعادة الثقة في الديمقراطية، ولكن أيضاً في قدرة الشعب الجنوب إفريقي على بناء مستقبل أفضل لأنفسهم.


