في خضمّ التحديات السياسية والاقتصادية التي تواجه المملكة المتحدة، برزت قضية الهجرة غير الشرعية كأحد أبرز الملفات الشائكة التي تستقطب الآراء وتُشعل النقاشات. ففي نهاية شهر سبتمبر الماضي، أطلق رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر مبادرةً واضحةً من مؤتمر حزب العمال في ليفربول، داعياً إلى مواجهة حاسمة، ليس فقط مع الأحزاب المعارضة، بل مع ما أسماه “روح البلاد” المتأثرة بتصاعد الخطاب الشعبوي اليميني. هذه الخطوة، وما تلاها من قرارات حكومية، أثارت جدلاً واسعاً داخل الحزب الحاكم وخارجه، وأعادت إلى الواجهة أسئلةً عميقة حول الهوية الوطنية، والقيم الإنسانية، والحلول العملية لمواجهة تدفق المهاجرين.

سياسة حكومية جديدة مثيرة للجدل حول الهجرة غير الشرعية

أعلن رئيس الوزراء عن سلسلة من الإجراءات التي وصفها بأنها “قد لا تكون مريحة دائماً للأعضاء”، في إشارة واضحة إلى التنازلات التي قد يضطر الحزب لتقديمها لكسب تأييد الرأي العام في ظل الضغوط المتزايدة من حزب الإصلاح البريطاني بقيادة نايجل فاراج. تزامن هذا الإعلان مع وصول 531 شخصاً جديداً إلى السواحل الإنجليزية عبر القناة، مما زاد من حدة الأزمة.

الأسبوع الماضي، كشفت وزيرة الداخلية، شابانا محمود، عن تفاصيل مجموعة الإجراءات الجديدة، والتي أثارت استياءً كبيراً بين العديد من نواب حزب العمال. تتضمن هذه الإجراءات زيادة مدة الانتظار للحصول على الإقامة الدائمة في المملكة المتحدة من خمس سنوات إلى عشرين سنة، وهي خطوة تعتبرها المعارضة عقابية وغير واقعية. بالإضافة إلى ذلك، تقترح الحكومة مراجعة حالة جميع طالبي اللجوء كل 30 شهراً، مع إمكانية ترحيلهم إذا رأت أن الظروف في بلدانهم الأصلية قد تحسنت. والأكثر إثارة للجدل هو الخيار المتاح لترحيل الأطفال المولودين في المملكة المتحدة مع والديهم.

انتقادات حادة من داخل حزب العمال

لم يتردد العديد من أعضاء البرلمان عن حزب العمال في التعبير عن انتقاداتهم اللاذعة لهذه الإجراءات. استخدموا كلمات قاسية مثل “القسوة” و”الاشمئزاز”، واتهموا الحكومة بتبني خطاباً فاشياً يتماشى مع أجندة اليمين المتطرف. ألف دوبس، السياسي العمالي المخضرم والعضو الحالي في مجلس اللوردات، صرح في مقابلة مع صحيفة “إل باييس” بأنه “يشعر بخيبة أمل وإحباط بالغين” من هذا التوجه المتشدد، خاصةً مع احتمال تضرر الأطفال.

وأضاف دوبس: “لا أعتقد أن هذا ضروري. لن نهزم حزب الإصلاح بمحاولة أن نكون متشددين مثلهم، فهم سيتفوقون علينا دائماً. ما يجب أن نفعله هو أن نبقى أوفياء لمبادئنا الأساسية، مثل اتفاقية جنيف والاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان.”

تجربة ألف دوبس الشخصية وأهمية الالتزام بالمبادئ الإنسانية

يحمل ألف دوبس قصة شخصية مؤثرة، حيث كان واحداً من الأطفال اليهود الذين تم إنقاذهم من النازيين من خلال عملية “نقل الأطفال” إلى المملكة المتحدة من تشيكوسلوفاكيا. هذه التجربة دفعته إلى تكريس جزء كبير من حياته للدفاع عن حقوق اللاجئين وتقديم الدعم لهم.

ويرى دوبس أن سياسات حكومة ستارمر الحالية تتجاهل الدروس المستفادة من التاريخ، وتتعارض مع القيم الإنسانية الأساسية. ويشير إلى أن “إسبانيا أثبتت أن هناك طريقة للمضي قدماً في هذه القضية دون اللجوء إلى هذه السياسات الهستيرية.” ويؤكد أن الأحزاب اليمينية المتطرفة في جميع أنحاء أوروبا تستغل قضية اللاجئين لكسب الأصوات، وأن المملكة المتحدة ليست بمنأى عن هذا التوجه.

التحديات القانونية والاجتماعية لترحيل المقيمين القدامى

يرى دوبس أن فكرة ترحيل الأشخاص الذين يعيشون في بريطانيا منذ ما يقرب من 20 عاماً هي فكرة “تنتمي إلى عصر آخر”، وتسأل: “كيف يمكن تحقيق الاندماج المجتمعي بهذه الطريقة؟ ماذا نفعل بالأطفال الذين ولدوا هنا؟ هل نرحلهم مع والديهم؟” ويؤكد أن هذه المعضلات “غير مقبولة على الإطلاق”.

من جهة أخرى، يرى المحلل والباحث في مرصد الهجرة بجامعة أكسفورد، ميهنيا كويبس، أن قضية الهجرة هي بالفعل قضية “تقسم البلاد”، مشيراً إلى أن استطلاعات الرأي تؤكد ذلك. ويضيف كويبس أن حكومة حزب العمال كان عليها أن تحاول صياغة رد على هذه القضية، نظراً لأهميتها في النقاش العام.

خلفية وزيرة الداخلية ودورها في تبرير السياسات الجديدة

تدرك حكومة ستارمر أن وزيرة الداخلية، شابانا محمود، تحمل خلفية فريدة من نوعها، حيث إن والديها كانا مهاجرين غير شرعيين عندما وصلا إلى المملكة المتحدة واستقرا في برمنغهام. وتعتقد الحكومة أن هذه الخلفية، بالإضافة إلى خطابها القوي والحازم، يمكن أن يشكلان درعاً واقياً ضد الانتقادات الداخلية للقمع الذي تمارسه الحكومة ضد تدفق المهاجرين.

وقد قدمت محمود نفسها، التي تعرضت للعديد من الإهانات العنصرية طوال حياتها، الإجراءات الجديدة على أنها “مهمة أخلاقية” لها ولحزب العمال، بهدف وقف الانقسامات الحالية في البلاد.

في الختام، تظل قضية الهجرة غير الشرعية في المملكة المتحدة قضية معقدة وشائكة، تتطلب حواراً بناءً وحلولاً عملية تراعي الجوانب الإنسانية والقانونية والأمنية. وبينما تسعى حكومة ستارمر إلى إيجاد توازن بين هذه الجوانب، فإنها تواجه تحدياً كبيراً في إقناع جميع الأطراف المعنية بجدوى هذه السياسات، وفي الحفاظ على مبادئها الأساسية في مواجهة الضغوط المتزايدة من اليمين المتطرف. هل ستنجح الحكومة في تحقيق هذا التوازن؟ هذا ما ستكشف عنه الأيام القادمة.

شاركها.
Exit mobile version