في عالم السياسة والدبلوماسية المعقد، يمثل الصراع في أوكرانيا نقطة تحول حاسمة. خلال أسبوع واحد فقط، شهدت الأحداث تطورات متسارعة، بدءًا من تسريبات حول “خطة سلام” أمريكية روسية اعتبرتها كييف بمثابة استسلام، وصولاً إلى اجتماعات مكثفة ومفاوضات سرية تهدف إلى إعادة رسم ملامح هذا السلام المُرتقب. هذا التحول السريع يطرح تساؤلات حول مستقبل أوكرانيا، ومصير المفاوضات، ودور القوى الكبرى في تشكيل هذا المستقبل. يركز هذا المقال على تحليل هذه التطورات، وفهم الديناميكيات المتغيرة، وتقييم فرص تحقيق السلام في أوكرانيا.
تطورات مفاجئة في مساعي السلام
في التاسع عشر من نوفمبر الجاري، انتشرت تقارير حول وجود “خطة سلام” أمريكية روسية، لم تلقَ ترحيباً في كييف. اعتبرت الحكومة الأوكرانية هذه الخطة أقرب إلى مطالبة بالاستسلام منها إلى مبادرة سلام حقيقية. تبع ذلك، بأيام قليلة، قمة طارئة في جنيف جمعت مسؤولين من أوروبا وأوكرانيا والولايات المتحدة، بهدف إعادة النظر في هذه المقترحات.
في الوقت الذي كانت فيه المفاوضات الأمريكية الروسية تتجه نحو صياغة مسودة منقحة للخطة، بدا الوضع غير مستقر. ومع ذلك، ظهرت مؤشرات على ارتياح حذر في كييف تجاه النسخ الجديدة من الوثيقة، على الرغم من الشكوك حول مدى استعداد الرئيس بوتين لقبول هذه البنود. تكمن المفارقة في أن العملية برمتها تبدو منحازة نحو ما تريده موسكو، حيث تركز المحادثات على التوفيق بين مطالب روسيا وتقديم تنازلات من الجانب الأوكراني، مع ترجيح أن يكون للكرملين الكلمة النهائية.
تخفيف الضغوط ووجهة نظر كييف
بعد اجتماعات جنيف، بدأت حالة من الذعر وتبادل الاتهامات في التراجع داخل أوكرانيا، وحل محلها شعور بالارتياح النسبي. تمكنت المفاوضات من إزالة بعض النقاط الأكثر إثارة للقلق من المسودة الأصلية التي تتكون من 28 بندًا. هذه المسودة، التي يعتقد أنها صممت بالتعاون بين المبعوث الأمريكي ستيف ويتكوف والروس، تضمنت شروطًا قاسية على كييف.
النسخة المنقحة، والتي تقلصت إلى 19 بندًا، خففت القيود على حجم الجيش الأوكراني، حيث سمحت بزيادة عدد الجنود إلى 800 ألف بدلاً من 600 ألف. كما تم حذف البنود المتعلقة بالعفو عن جرائم الحرب، وأي إشارات إلى تمكين الولايات المتحدة من الاستفادة من الأصول الروسية المجمدة. ومع ذلك، لا تزال هناك قضايا حساسة معلقة، وتنتظر مناقشتها بين الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ونظيره الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، مثل المطالب الروسية بشأن الأراضي الأوكرانية، وتعديل الدستور لاستبعاد الانضمام إلى حلف الناتو، وطبيعة الضمانات الأمنية الأمريكية.
نقطة حاسمة: المساومة والضغوط
تعتبر جولات المساومة الأخيرة والضغوط الأمريكية على أوكرانيا من أهم التطورات التي شهدتها عملية السلام حتى الآن. يرى دبلوماسي غربي في كييف أن هذه المفاوضات تختلف بشكل جذري عما اعتادوا عليه، بينما تشير مصادر مقربة من المحادثات إلى تحقيق “تقدم مهم” في تقريب المواقف.
وفقًا لأحد المصادر، العملية تقترب من نقطة حاسمة: إما الاستمرار في التفاوض أو إعلان فشلها. ومع ذلك، هناك توقع بأن موسكو قد تلين موقفها في نهاية المطاف، على الرغم من أن العملية قد تستمر لأشهر عدة. السؤال الذي يطرح نفسه هو: متى ستبدأ روسيا في تقديم التنازلات؟ وكيف سيكون الوضع على الجبهات القتالية في هذه الأثناء؟ المفاوضات الأوكرانية الروسية تشكل تحديًا دائمًا.
الخلافات الداخلية الأمريكية وتأثيرها على السلام
ويبدو أن الرئيس ترامب تراجع عن اشتراطه أن توقع أوكرانيا على الاتفاقية قبل شهر ديسمبر. لكنه قد يواجه لاحقًا خيبة أمل بشأن نتيجة هذه المفاوضات. هناك خلافات داخل الإدارة الأمريكية تؤثر على مسار العملية.
فمن جهة، يقف ستيف ويتكوف ونائب الرئيس جي دي فانس، اللذان يميلان إلى إيجاد حلول تُعزز موقف روسيا وتمنح الأولوية للمصالح التجارية الأمريكية. ومن جهة أخرى، هناك المؤسسات التقليدية في الاستخبارات ووزارة الخارجية، وعلى رأسها وزير الخارجية ماركو روبيو، الذي يعمل مع حلفائه الأوروبيين لمحاولة إعادة الأمور إلى نصابها. حسب مصادر من البيت الأبيض، حقق روبيو انتصارًا في هذه الجولة، لكن الصراع لم ينته بعد.
تسريبات خطيرة وتأثيرها على الثقة
أثارت تسريبات حديثة المزيد من التوترات، حيث نشر موقع “بلومبيرغ” تسجيلين صوتيين يُعتقد أنهما لمحادثات بين ويتكوف ومستشار السياسة الخارجية في الكرملين يوري يوشيكوف، وبين يوشيكوف ومبعوث بوتين الخاص كيريل ديميتريف.
يُظهر التسجيل الأول ويتكوف وهو يشرح ليوشيكوف كيفية تعامل بوتين مع ترامب، مشيرًا إلى أن الرئيس الأمريكي سيدعم مطلب روسيا بالسيطرة على ما تبقى من إقليم دونيتسك، وهي نقطة خلاف رئيسية. على الرغم من أن ديميتريف نفى صحة التسجيل، إلا أن موقف يوشيكوف كان أقل حدة. في إدارة أكثر صرامة، ربما أدت هذه التسريبات إلى إقالة ويتكوف، لكن ترامب أكد بدلاً من ذلك أن مبعوثه سيزور الكرملين الأسبوع المقبل للقاء بوتين، كما سيشغل وزير الجيش دان دريسكول، المقرب من فانس، منصب مسؤول الاتصال في أوكرانيا.
التوترات الداخلية في أوكرانيا
تأتي هذه التطورات في خضم توتر داخلي متصاعد في أوكرانيا، على خلفية فضيحة فساد داخل شركة “إنرغوتوم” الحكومية المتخصصة في الطاقة النووية. هرب الشريك التجاري السابق للشركة، تيمور منيديش، إلى إسرائيل بعد اتهامه بالضلوع في مخطط احتيال بقيمة 100 مليون دولار من خلال رشى في عقود العمل.
وقد أدت هذه الفضيحة إلى إقالة وزيرين، كما يواجه نائب رئيس وزراء سابق وصديق مقرب للرئيس اتهامات بالاحتيال. على الرغم من ذلك، رفض زيلينسكي دعوات لإجراء إصلاحات حكومية أو إقالة رئيس أركانه المؤثر أندريه يرماك، الذي لعب دورًا رئيسيًا في قيادة الوفد الأوكراني في مفاوضات السلام.
الوضع على الجبهة القتالية ومستقبل أوكرانيا
مقارنة بالتهديدات الداخلية، تبدو الجبهة القتالية مصدر قلق أقل إلحاحًا. يعتقد بعض المحللين أن الوضع العسكري لا يزال تحت السيطرة، وأن روسيا لم تُظهر حتى الآن قدرة على تحويل تقدمها البطيء إلى نصر حاسم. مع ذلك، هناك مؤشرات على تدهور الوضع، حيث تعاني أوكرانيا من نقص حاد في الجنود، بينما أثمرت استثمارات روسيا في إنتاج الطائرات المُسيّرة، مما أدى إلى تدمير طرق الإمداد الحيوية خلف الجبهة. تسعى روسيا أيضًا لتطوير أسلحة جديدة، قد تجعل مدنًا شرقية مثل خاركيف ودنيبرو غير قابلة للسكن.
وفي ظل هذه الظروف، يرى العديد من الأوكرانيين أنه من غير المرجح أن يقبل بوتين بأي اتفاق يسمح لأوكرانيا بالبقاء قوية، وأن إجباره على ذلك يتطلب ضغوطًا أمريكية كبيرة، لا تبدو واشنطن مستعدة لتقديمها. الأزمة الأوكرانية تتطلب حلولًا شاملة.
الاستمرار في القتال أم التسوية؟
يعتقد دبلوماسيون أوكرانيون أن أفضل رهان لبلادهم هو الاستمرار في القتال دون خسارة دعم الحلفاء، وهو ما يتطلب تجديد تدفق التمويل الخارجي، الذي تعتمد عليه أوكرانيا حاليًا بشكل كبير من أوروبا. ومن المقرر أن تعقد قمة أوروبية في منتصف ديسمبر المقبل، قد تتخذ قرارًا بشأن الأصول الروسية المجمدة، والتي أصبحت أكثر أهمية من أي وقت مضى.
ويرى الدبلوماسيون الأوكرانيون أن الطريق أصبح ضيقًا جدًا، حيث يجب تجنب أي صدام مع الرئيس ترامب، والحفاظ على استمرار تدفق الأسلحة بتمويل أوروبي، والانتظار على أمل أن يقتنع الكرملين بأن الحرب أصبحت غير مستدامة. المحادثات الروسية الأوكرانية يجب أن تستند إلى مبدأ الاحترام المتبادل.
باختصار، يظل تحقيق السلام في أوكرانيا هدفًا بعيد المنال، يتطلب تضافر الجهود الدولية، وتقديم تنازلات مؤلمة من جميع الأطراف، وترويض الخلافات الداخلية التي تهدد بتقويض عملية السلام الهشة.


