تستحوذ قضية التغير الديموغرافي وتراجع الأعداد السكانية في آيسلندا على اهتمام متزايد، خاصةً في بلد يضم عدد سكان أقل من مدينة ويتشيتا بولاية كانساس الأمريكية. ففي هذه الجزيرة الشمالية، وصلت أعداد المهاجرين إلى مستويات تعتبرها السلطات “أزمة” وتثير تحديات اجتماعية واقتصادية عميقة. هذا التحول ليس فريدًا لآيسلندا، بل يمثل نمطًا يتكرر في جميع أنحاء أوروبا، مع تداعياته المختلفة على المجتمعات المحلية.
أزمة ديموغرافية وتصاعد الجريمة في آيسلندا
يتجاوز القلق في آيسلندا مجرد الأرقام والإحصائيات المتعلقة بالهجرة. فتشير التقارير إلى تصاعد معدلات الجريمة في بعض الأحياء، مما يخلق شعورًا بعدم الأمان وتغييرًا في التركيبة الاجتماعية. العديد من هذه الحوادث لا تحظى بتغطية إعلامية واسعة النطاق سواء داخل آيسلندا أو على الصعيد الدولي، لكنها تثير قلقًا كبيرًا لدى المعلمين، والأهالي، والسلطات الأمنية.
تظهر أنماط جديدة من النشاط الإجرامي، خاصةً تلك التي تقوم بها مجموعات “شبابية” مرتبطة بعصابات إجرامية من أحياء المهاجرين في أوروبا القارية. وفي الوقت نفسه، تحذر الشرطة الآيسلندية من خطر التطرف، حيث تم بالفعل ترحيل مهاجر واحد على الأقل لديه صلات بمنظمات متطرفة هذا العام.
قضية الاغتصاب و”سوء الفهم الثقافي”
أثارت قضية حديثة في الصيف الماضي جدلاً واسعًا في آيسلندا. فقد قضت المحكمة العليا بإدانة مهاجر كان يعمل في مدرسة ابتدائية بتهمة الاعتداء الجنسي المتكرر على طالبة تبلغ من العمر 14 عامًا على مدى عدة أشهر.
الأمر الأكثر إثارة للجدل هو أن محكمة محلية كانت قد رفضت في وقت سابق تهم الاغتصاب الأكثر خطورة بحجة وجود “سوء فهم ثقافي”. هذه الحجة أثارت غضبًا واسعًا، خاصة وأن سكرتير رئيس الوزراء السابق كان قد أبرز هذا الشخص، في وقت سابق، كـ “قصة نجاح في الاندماج” خلال “المنتدى العالمي للاجئين 2019”.
ردود فعل على التغيير الاجتماعي السريع
أدركت رئيسة الوزراء الاشتراكية الديمقراطية، كريسترون فروستادوتير، حساسية الموقف، حيث صرحت هذا الصيف: “من الطبيعي أن تثار المشاعر عندما يتعلق الأمر بتغيير اجتماعي سريع كهذا”. وأضافت أن “النمو السريع في نسبة المهاجرين في آيسلندا يجعل الناس يتساءلون ويفكرون”.
هذا القلق لا يقتصر على الأوساط السياسية، بل يمتد ليشمل المجتمع المدني. مدرب كرة السلة برينجار كارل سيغوردسون، على سبيل المثال، ابتكر مصطلح “بيبي مالمو” لوصف حي من الطبقة العاملة في العاصمة ريكيافيك، والذي شهد زيادة كبيرة في عدد السكان المهاجرين. وقد عبر سيغوردسون عن غضبه من هذا الوضع، واصفًا إياه بأنه “السماح للعدوى بالتسبب في بتر الساق بأكملها”.
التحديات الاقتصادية وتأثير الهجرة
يشهد المشهد الاقتصادي في آيسلندا مزيجًا من الدعم الحكومي، والعمل المؤقت، والأنشطة غير المشروعة. وتجذب الأنشطة الإجرامية بشكل خاص الفتيات والشباب المهاجرين.
وتشير التقارير الأخيرة إلى أن سوق العمل في قطاعات معينة، مثل قطاع سيارات الأجرة، قد أصبحت مشبعة بالعمال الأجانب، مما يزيد من المنافسة ويدفع البعض إلى ممارسات غير قانونية مثل التهرب الضريبي. ونتيجة لذلك، بدأ بعض السائقين الآيسلنديين في وضع العلم الوطني على سياراتهم، كنوع من التعبير عن الهوية الوطنية.
آيسلندا: نموذج فريد أم نسخة من أوروبا؟
يرى الآيسلنديون أن بلدهم “السيادي” يتحول إلى منطقة اقتصادية أو مستعمرة ناطقة باللغة الإنجليزية. وهذا الشعور ليس جديدًا، فقد عبّر عنه الكاتب الحائز على جائزة نوبل، هالدور لاكسنس، في روايته قبل ثمانية عقود.
لم تسلك آيسلندا المسار التقليدي لأوروبا الغربية، حيث استقبلت ألمانيا الغربية ملايين العمال المهاجرين في السبعينيات. بدلًا من ذلك، تشابهت آيسلندا مع إيرلندا، وهي جزيرة أخرى معزولة شهدت تحولات اجتماعية واقتصادية جذرية نتيجة للرأسمالية المتوحشة.
على غرار إيرلندا، استقبلت آيسلندا في التسعينيات أعدادًا محدودة من اللاجئين من حروب يوغوسلافيا. وفي عام 1994، انضمت إلى المنطقة الاقتصادية الأوروبية، ثم شهدت تدفقًا كبيرًا من العمال من دول أوروبا الوسطى والشرقية بعد انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي في عام 2004.
“منازل مفتوحة لطالبي اللجوء” وتفاوت الواقع
خلال أزمة اللاجئين في عام 2015، أعلن الأثرياء في آيسلندا أن منازلهم مفتوحة أمام السوريين وغيرهم من طالبي اللجوء من الشرق الأوسط. في حين ظلت الأحياء الغنية في ريكيافيك في الغالب محافظة على هويتها الآيسلندية مع تبنيها مواقف مؤيدة للاجئين، شهدت الأحياء الفقيرة مثل “بريدهولت” تحولات جذرية وأصبحت تشبه المناطق المحظورة في عواصم أوروبية أخرى.
وبحلول عام 2023، يشكل الأجانب ما بين 15 و20% من طلاب المدارس الآيسلندية، وهي نسبة كبيرة بالنسبة لبلد تقليديًا متجانس. يثير هذا الارتفاع في نسب الهجرة تساؤلات حول مستقبل الهوية الوطنية والثقافة الآيسلندية.
الخلاصة:
تواجه آيسلندا تحديات ديموغرافية واجتماعية واقتصادية معقدة نتيجة للزيادة الكبيرة في أعداد المهاجرين. قضية الهجرة في آيسلندا أصبحت قضية رأي عام رئيسية، مع مخاوف متزايدة بشأن التغيرات في التركيبة السكانية، وتصاعد الجريمة، وتأثير ذلك على الهوية الوطنية. يتطلب التعامل مع هذه التحديات حوارًا مفتوحًا، وسياسات شاملة، وجهودًا حقيقية لتعزيز الاندماج والتكامل الاجتماعي، مع الحفاظ على القيم الثقافية والاجتماعية لآيسلندا. هل ستتمكن آيسلندا من إيجاد توازن بين استقبال المهاجرين والحفاظ على هويتها المميزة؟ هذا ما ستكشفه السنوات القادمة.
Secondary Keywords used: التغير الديموغرافي (Demographic change), الاندماج الاجتماعي (Social integration), الهوية الوطنية (National identity)


