توصل علماء من معهد ماكس بلانك لعلوم الأعصاب في ألمانيا إلى اكتشاف مذهل حول كيفية إدراك الدماغ للزمن والتحكم في توقيت الحركات. هذه الدراسة، التي تركز على آلية دقيقة تشبه عمل الساعة الرملية، تلقي الضوء على العمليات العصبية المعقدة التي تمكننا من أداء المهام اليومية بدقة، بدءًا من التحدث والمشي وصولًا إلى ممارسة الرياضة. فهم هذه الآلية قد يفتح آفاقًا جديدة لعلاج اضطرابات الحركة مثل مرض باركنسون وهنتنجتون.
كيف يضبط الدماغ توقيت الحركات؟
لطالما كان التحكم في توقيت الحركة لغزًا علميًا. فالأدمغة لا تمتلك أعضاء حسية مخصصة لقياس الوقت مثل العينين أو الأنف، ومع ذلك، فهي قادرة على تقدير الفترات الزمنية بدقة عالية وتنفيذ الحركات في الوقت المناسب. كشفت الدراسة أن هذه القدرة لا تعتمد على مصدر واحد، بل على شبكة معقدة من النشاط العصبي المتداخل. الآليات العصبية التي تبني هذا “المؤقت الداخلي” كانت موضع بحث مكثف لعقود، والآن، بفضل التجارب التي أجريت على الفئران باستخدام تقنيات متطورة مثل التسجيلات العصبية والأوبتوجيناتكس، أصبحنا أقرب إلى فهم هذه العملية.
التفاعل بين القشرة الحركية والجسم المخطط
ركزت الدراسة على التفاعل بين منطقتين دماغيتين رئيسيتين: القشرة الحركية والجسم المخطط. قام الباحثون بتدريب الفئران على لعق فوهة للحصول على مكافأة غذائية، مع اشتراط توقيت دقيق للحركة، مثل الضغط بعد ثانية واحدة. خلال هذه التجارب، قاموا بتسجيل النشاط الكهربائي لآلاف الخلايا العصبية في كلتا المنطقتين بشكل متزامن. هذا التسجيل المتزامن سمح لهم بتحليل الأنماط الزمنية للنشاط العصبي وتحديد كيفية ارتباطها بالسلوك.
فك شفرة عمل الدماغ في توقيت الحركة
من خلال دمج البيانات السلوكية مع التلاعب التجريبي في النشاط العصبي، تمكن الباحثون من فك شفرة المهمة التي يؤديها كل جزء من الدماغ عند متابعة الوقت. أظهرت النتائج أن القشرة الحركية تعمل كالجزء العلوي من الساعة الرملية، حيث ترسل نبضات عصبية مستمرة إلى الجسم المخطط. بينما يقوم الجسم المخطط بدور الجزء السفلي، حيث تتراكم هذه الإشارات تدريجيًا بمرور الوقت. عندما يصل تراكم الإشارات إلى مستوى معين، يتم إطلاق الحركة المطلوبة.
أي خلل في هذا التدفق أو التراكم يؤدي مباشرة إلى اضطراب في توقيت الحركة. على سبيل المثال، أظهر إيقاف نشاط القشرة الحركية مؤقتًا أن ذلك يؤدي إلى “تجميد” الساعة العصبية، حيث يتوقف تدفق الإشارات إلى الجسم المخطط. وبالمثل، أدى إيقاف نشاط الجسم المخطط إلى إعادة تعيين المؤقت العصبي إلى بدايته.
آثار الدراسة على فهم اضطرابات الحركة
أظهرت التجارب أن المنطقة المسؤولة عن تراكم الإشارات الزمنية لا تخزن الزمن في ذاكرة قصيرة، بل تعتمد كليًا على استمرار تدفق الإشارات من القشرة الحركية. هذا الاكتشاف له آثار عميقة على فهمنا للاضطرابات العصبية التي تؤثر على توقيت الحركة. فمن خلال فهم كيفية عمل هذه الشبكة العصبية، يمكننا البدء في فهم سبب فقدان مرضى باركنسون وهنتنجتون القدرة على السيطرة على توقيت حركاتهم بدقة.
ربطت النتائج بين هذه الآلية والمشكلات الزمنية التي تظهر في هذه الاضطرابات، مما يفسر سبب صعوبة بدء الحركات أو إيقافها في الوقت المناسب لدى هؤلاء المرضى. هذا الفهم يمثل خطوة مهمة نحو تطوير علاجات أكثر فعالية لهذه الحالات.
مقدمة لتطوير طرق علاجية جديدة
لا تقتصر أهمية هذه الدراسة على فهم الآليات العصبية الأساسية، بل تمتد أيضًا إلى آفاق تطوير العلاج. فهم التفاعل بين القشرة الحركية والجسم المخطط يمهد الطريق لتطوير أدوات مستقبلية لإعادة ضبط مؤقت الحركة لدى المرضى الذين يعانون من اضطرابات في توقيت الحركة. إذا نجحنا في تنظيم نشاط هذه الشبكة العصبية بدقة، فقد نتمكن من استعادة الحركات السلسة والطبيعية لدى المرضى الذين فقدوا التحكم في الحركة بسبب تلف هذه المناطق.
يأمل الباحثون في أن يتمكنوا لاحقًا من اختبار ما إذا كان من الممكن تطوير محفزات عصبية أو تدخلات دوائية موجهة لإعادة بناء آلية “الساعة الرملية” داخل الدماغ. الهدف النهائي ليس فقط علاج الأعراض الظاهرة للاضطرابات الحركية، بل الوصول إلى استعادة القدرة على توقيت الحركة، وهو ما يمثل العنصر الرئيسي في القدرة على النهوض والمشي والتحدث وممارسة الرياضة وأداء المهام الدقيقة.
في الختام، تقدم هذه الدراسة رؤى جديدة ومثيرة حول كيفية إدراك الدماغ للزمن والتحكم في الحركات. إن فهم المؤقت الداخلي داخل الدماغ لا يعمق فقط المعرفة العلمية عن آلية التحكم في السلوك، بل يفتح آفاقًا لاستيعاب كيفية اكتساب المهارات الحركية والتدريب الرياضي وبناء الأنظمة الذكية. هذا البحث يمثل خطوة أولى نحو خارطة شاملة للكيفية التي “يصنع” بها الدماغ الزمن للتحكم في الحركة، ويحمل في طياته وعدًا بتحسين حياة ملايين الأشخاص الذين يعانون من اضطرابات الحركة.


