كشفت دراسة حديثة عن آلية جديدة تُفسر وجود مواد قارية داخل جزر بركانية بعيدة عن حدود الصفائح التكتونية النشطة. هذه الظاهرة الجيولوجية أثارت تساؤلات كبيرة بين العلماء لفترة طويلة، حيث وجدت جزر بركانية تحتوي على مواد قارية رغم بعدها الشديد عن القارات.

انفصال القارات وتأثيره على تكوين الجزر البركانية

أوضحت الدراسة المنشورة في دورية Nature Geoscience أن العديد من الجزر المحيطية البعيدة، التي تتكون عادة من براكين تحت مائية، تحتوي على مواد جيولوجية مصدرها القارات. هذه المواد تشمل عناصر كيميائية معينة تُظهر بصمة قارية واضحة، مما يطرح تساؤلات حول كيفية انتقال هذه المواد لمسافات شاسعة عبر المحيطات.

الآليات المقترحة لنقل المواد القارية

في الماضي، حاول العلماء تفسير هذه الظاهرة من خلال فرضيتين أساسيتين. الأولى تقترح أن هذه المواد القارية هي بقايا رواسب قديمة أعيد تدويرها عندما غرقت الصفائح المحيطية إلى أعماق الوشاح الأرضي. أما الثانية فترى أن المواد جاءت من أعماق الأرض عبر تيارات حرارية صاعدة تُعرف بأعمدة الوشاح أو “البلوم”.

ومع ذلك، لم يكن أي من هذين التفسيرين كافياً لتوضيح الصورة بالكامل. بعض المناطق البركانية لا تظهر فيها أي أدلة على إعادة تدوير القشرة، بينما تبدو مناطق أخرى باردة جداً، بحيث لا يمكن أن تكون ناتجة عن أعمدة الوشاح الساخنة.

اكتشاف “موجات الوشاح” وآثارها

من خلال تحليلات جيوكيميائية ونمذجة حاسوبية متقدمة، توصل الباحثون إلى اكتشاف مذهل. فقد وجدوا أن انفصال القارات لا يحدث بهدوء كما كان يُعتقد سابقاً، بل يولد موجات من عدم الاستقرار على عمق يتجاوز مئة كيلومتر داخل الوشاح الأرضي. هذه الموجات، التي أطلق عليها الباحثون اسم “موجات الوشاح”، تقوم بكشط أجزاء من الجذور البلورية التي تمثل القاعدة السفلى للقارات.

وتتحرك هذه المواد المقشورة أفقياً لمسافات طويلة داخل باطن الأرض، لتستقر في نهاية المطاف تحت قاع المحيط. هناك، على مدى ملايين السنين، تتحول إلى وقود يغذي النشاط البركاني الذي ينشئ الجزر والمناطق البركانية المحيطية.

أدلة من التحليلات الجيولوجية

استخدم الفريق البحثي بيانات جيولوجية من مناطق مختلفة من العالم، بما في ذلك مقاطعة “السماونت” في المحيط الهندي. هذه المقاطعة عبارة عن سلسلة من التشكيلات البركانية التي نشأت بعد تفكك القارة العملاقة “غوندوانا” قبل أكثر من 100 مليون عام.

وأشارت التحليلات الكيميائية إلى ظهور مواد غنية بعناصر قارية في باطن المحيط بعد وقت قصير من تفكك قارة “جوندوانا” القديمة. هذه المواد أسهمت في إنتاج صهارة بركانية مميزة، تحمل بصمة كيميائية قارية واضحة.

نتائج الدراسة وآثارها على الفهم الجيولوجي

أكدت الدراسة أن هذه العملية يمكن أن تنقل المواد القارية لمسافات تتجاوز 1000 كيلومتر من داخل القارات نحو أعماق المحيط. وقال الباحثون إن نتائجهم تظهر أن الوشاح الأرضي يستمر في “الإحساس” بآثار تمزق القارات لفترة طويلة بعد انفصالها الفعلي.

كما أوضحوا أن النظام التكتوني لا يتوقف بمجرد تشكل أحواض محيطية جديدة، بل يظل الوشاح في حركة مستمرة يعيد تنظيم نفسه، وينقل المواد الغنية كيميائياً إلى أماكن بعيدة جداً عن موقعها الأصلي.

تفسيرات جديدة لظواهر جيولوجية معقدة

فسر الباحثون أن “موجات الوشاح” تختلف عن أعمدة الوشاح في كونها ليست تيارات صاعدة من الأعماق، بل حركات أفقية وبطيئة تنقل فيها الطاقة والمواد عبر مسافات شاسعة داخل الأرض.

وتظهر عمليات المحاكاة أن هذه الموجات يمكن أن تستمر في التأثير لدهور طويلة بعد الانفصال القاري، بحيث يظل أثرها واضحاً في تركيب الصخور البركانية الجديدة التي تتكون في مناطق بعيدة تماماً عن مواقع التشقق الأصلية.

الاستنتاجات والتأثيرات المستقبلية

في الختام، تقدم هذه الدراسة رؤية جديدة حول كيفية تفاعل القارات والمحيطات على مدى الزمن الجيولوجي الطويل. إن فهم هذه العمليات الدقيقة يُظهر أن الأرض ليست مجرد قشرة صلبة فوق وشاح ساكن، بل نظام ديناميكي معقد يعيش في حركة مستمرة منذ نشأته قبل أكثر من أربعة مليارات عام.

هذه الحركة العميقة هي التي تحدد ملامح الكوكب كما نعرفها اليوم، من توزيع القارات إلى شكل أحواض المحيطات، ومواقع البراكين. ومن المتوقع أن يساعد هذا الفهم الجديد في تفسير ظواهر جيولوجية أخرى وإعادة رسم خريطة العمليات الجيولوجية العالمية.

وبهذا، يفتح هذا الاكتشاف آفاقاً جديدة لفهم العلاقة بين تركيب باطن الأرض وتطور سطحها على مدى العصور، مما يعزز قدرتنا على التنبؤ بسلوك الأرض الجيولوجي في المستقبل.

شاركها.
Exit mobile version