في وقت يرى كثيرون أن التقاعد محطة للهدوء والراحة والسكينة، وجد متقاعدون إماراتيون في ذلك الفصل من العمر ولادة جديدة، وانطلاقة نحو الإنجاز لحياة مهنية مفعمة بالشغف والإبداع، مؤكدين أنهم امتلكوا وقتاً لم يكونوا يتصورونه، ليحققوا أحلاماً كانت مؤجلة ومشروعات معلّقة لزمن، ربما بسبب ضغوط الوظيفة والتزاماتها، وحان الوقت لتنفيذها في الآونة الذهبية التي يثبتون خلالها أنهم على قيد العطاء، وغير «منتهي الصلاحية». هذا التحول الإيجابي في نظرة المتقاعدين إلى هذه المرحلة الحياتية يعكس التغيرات الاجتماعية والثقافية في دولة الإمارات العربية المتحدة، وتشجيعها على الاستثمار في الخبرات والكفاءات المتاحة.
التقاعد.. بداية لمرحلة جديدة من العطاء والإنجاز
تتنوّع قصص نجاحات تلك النماذج الإماراتية، بداية من شغف جمع السيارات الكلاسيكية، الذي تحوّل مع الإصرار والعزيمة إلى مشروع مهني ناجح، إلى خوض غمار ريادة الأعمال في مجال العقارات باقتدار، مروراً بقرار رصد ملامح الواقع، وتجسيد جواهر دبي والوطن بعدسة الصحافي المتمرس، وصولاً إلى محاولة نشر رياضة غير مشهورة بين فئات كثيرة. هذه القصص الملهمة تبرز أن التقاعد ليس نهاية المطاف، بل بداية حقيقية لفصل جديد من النشاط والحركة والإنجاز والعطاء، وفرصة لاستكشاف مواهب وقدرات جديدة.
شغف يتحول إلى مهنة: قصة محمد حسن الطاهري
البداية مع الإماراتي، محمد حسن الطاهري، المتقاعد من شرطة دبي، والمعروف بجمعه السيارات الكلاسيكية النادرة، خصوصاً «المرسيدس»، واحترافه مهنتها وصيانتها. يمتلك الطاهري اليوم مجموعة مميزة تضم 27 سيارة كلاسيكية من تلك العلامة تعود إلى إصدارات قديمة ما بين 1956 و1986. ودأب الطاهري على ممارسة هوايته وصولاً إلى اختياره بعد التقاعد، تحويلها إلى مهنة، مؤكداً أن هواية السيارات هي مساحته المهنية والإبداعية الأثيرة التي تشعره بالسعادة. يضيف: «الإنسان الذي ليست له هواية، لا يتقاعد، لكيلا يواجه إحساس الفراغ. فمادامت الصحة بخير، فإن العطاء لا يتوقف، حتى بعد التقاعد».
الطاهري يرى أن الحركة والعمل هما مفتاح الإنجاز، وأن الحكومة الرشيدة لم تقصر في منح الفرص لاستثمار المواهب والخبرات. شغفه بالسيارات القديمة والهندسة الميكانيكية بدأ في الثمانينات، مدعوماً بالخبرة الفنية والدورات المتخصصة، مما مكنه من امتلاك مخزون واسع من قطع الغيار الأصلية والمشاركة الفاعلة في مهرجانات السيارات الكلاسيكية، وحصوله على جوائز عدة على مستوى الخليج.
“عيون دبي” ترصد كنوز الوطن
من جانبه، نجح محمد سلطان بن ثاني، في تكريس تجربته الإعلامية الطويلة ليصبح أحد «عيون دبي»، التي تروي بالصوت والصورة الحية كنوز المكان وجواهره. بن ثاني بدأ مسيرته الصحفية في أواخر الثمانينات وعمل في دائرة الأراضي والأملاك في دبي لأكثر من 27 عاماً. يقول بن ثاني: «لا أعتبر نفسي صانع محتوى، بل أنا ناقل للمحتوى ولتجارب الآخرين بكل عفوية وصدق». مع دخوله فترة التقاعد وجد أن وقته بات ملكه، فاندفع إلى رصد تجارب المجتمع من حوله متكئاً على حسه الصحافي وفضوله القديم.
اليوم، أصبح بن ثاني أحد أبرز الوجوه الإعلامية التي نجحت عدستها في عكس صورة حية وأصيلة لنبض مدينة دبي، هويتها ودفء مجتمعها المترابط. يؤكد أن ما يقدمه من محتوى هو امتداد طبيعي لعمله الصحافي، بعيداً عن التصنع أو الاستعراض، وأن التقاعد منحته حرية التعبير وعمق التجربة لتحويل الشغف إلى رسالة وطنية.
ريادة الأعمال بعد التقاعد: قصة أحمد ناصر لوتاه
أحمد ناصر لوتاه، وبعد سنوات من العمل الحكومي، تقاعد ليدخل بإصرار وثبات مجال الوساطة العقارية، مقدماً نموذجاً حياً للطموح. صاحب شركة «عقارات المجلس» يقول: «تقاعدت مبكراً لإيماني بتوافر فرص النجاح في مجال العقارات الذي اكتسبت فيه تجارب وخبرة ورثتها من الوالد». ويضيف: «لو رجع بي الزمن إلى الوراء، لاخترت طريق العمل الحر المليء بالفرص والآفاق الواعدة».
لوتاه يدعو المتقاعدين إلى استثمار الفرص المتاحة، والشباب للتحلي بفكر استباقي وطموح لا محدود، وحرص على استثمار الخبرة المكتسبة حتى بعد التقاعد، لإنجاز مشروع الأحلام الذي بقي معلقاً.
نشر ثقافة رياضية جديدة: مبادرة خميس خميس البلوشي
خميس خميس البلوشي، نجح في تأسيس رياضة تنافسية اجتماعية جديدة هي «رياضة التوجه بالبوصلة»، الأولى من نوعها على مستوى الخليج والشرق الأوسط. بدأ البلوشي الفكرة منذ عام 2003 بالتوازي مع الوظيفة، وبعد 47 عاماً في القوات المسلحة، قرر ألا يجعل من التقاعد استراحة استرخاء بل انطلاقة جديدة. اليوم، يشارك ما يزيد على 3500 شخص في ممارسة هذه الرياضة، بعد أن بدأت مع خمسة أشخاص، مما يعكس نجاحه في نشر ثقافتها وتشجيع مختلف فئات المجتمع على ممارستها.
التقاعد: استثمار في الصحة النفسية والاجتماعية
أكد استشاري طب الأسرة والصحة المهنية، الدكتور منصور أنور حبيب، قيمة الاستفادة من مرحلة التقاعد، مشيراً إلى أن استثمارها بشكل إيجابي هو أحد أهم مفاتيح تحقيق التوازن النفسي. يقول الدكتور منصور: «بدء إجراءات التقاعد ليس إعلاناً عن انتهاء صلاحية الشخص، وإنما بداية مبشرّة تؤسس لمرحلة جديدة مثمرة». ويضيف أن الدراسات تشير إلى أن التقاعد من أهم المراحل النفسية الإيجابية إذا استثمر فيها الشخص عصارة خبرته في شغفه، ووظف طاقاته في خدمة مجتمعه.
الخلاصة أن التقاعد ليس نهاية الطريق، بل هو فرصة ذهبية للانطلاق نحو آفاق جديدة من العطاء والإنجاز، وتحقيق الأحلام المؤجلة، والاستثمار في الصحة النفسية والاجتماعية، والمساهمة في بناء مجتمع أكثر ازدهاراً وتطوراً. هل أنت مستعد لاستقبال هذه المرحلة الجديدة بكل حماس وشغف؟ شاركنا قصتك الملهمة!


