على مسرح دائري فريد من نوعه، تحولت الدمى إلى رواة قصص، والخشبة إلى ساحة للتعبير عن أعمق المشاعر الإنسانية. في ثالث أيام مهرجان دبي لمسرح الشباب، تألق عرض “عطيل صانع الدمى” ليقدم إعادة تصور جريئة لمأساة شكسبير الشهيرة، وليثير تساؤلات حول الثقة، الشك، الغيرة، وتأثير كلام الناس على العلاقات. هذا العرض لم يكن مجرد استعادة لعمل كلاسيكي، بل كان تجربة مسرحية معاصرة، تعتمد على لغة بصرية وحركية مبتكرة، مما جعله حديث الجمهور والنقاد على حد سواء.
عطيل صانع الدمى: رؤية مسرحية معاصرة لمأساة شكسبير
لم يكتفِ مسرح دبي الأهلي بتقديم نسخة طبق الأصل من “عطيل”، بل انطلق في رحلة استكشافية للعلاقات الإنسانية المعقدة، مستخدماً الدمى كأداة رئيسية للتعبير عن هذه التعقيدات. الدمى لم تكن مجرد عناصر زخرفية، بل تجسدت كشخصيات حقيقية، تتنفس وتتحرك، وتشارك في صياغة الأحداث وتوجيهها. هذا الدمج بين الإنسان والدمية خلق تناغماً فريداً، سمح للجمهور بالتعمق في عالم العرض والتفاعل معه بشكل مباشر.
المسرح الدائري واللغة البصرية: تجربة غامرة للجمهور
اختيار المسرح الدائري لم يكن عشوائياً، بل كان جزءاً لا يتجزأ من الرؤية الإخراجية للمخرج وبطل العرض، عبدالله صنقور. هذا التصميم منح الجمهور فرصة الإحاطة الكاملة بالأحداث، والانغماس في عاصفة المشاعر التي تجتاح الشخصيات. المقاعد الدائرية المتدرجة تحولت إلى منصات للاعتراف، حيث تبادل عطيل وديدمونة الحوارات الصادقة، وكشفا عن أعمق مخاوفهما وآمالهما.
الإضاءة الخافتة، والموسيقى التصويرية المؤثرة من تأليف عبدالعزيز الخميس، والديكور البسيط، كلها عناصر ساهمت في خلق جو من الغموض والتوتر، يعكس الحالة النفسية المضطربة للشخصيات. المخرج استطاع ببراعة تحويل الأدوات البسيطة إلى مفردات لغة مسرحية مشحونة، مما أضفى على العرض طابعاً فنياً متميزاً. مسرح الدمى هنا لم يكن مجرد أسلوب، بل كان وسيلة لإبراز هشاشة العلاقات الإنسانية وقابليتها للانهيار.
الدمى والرموز: كشف خبايا النفس البشرية
الدمى في عرض “عطيل صانع الدمى” لم تكن مجرد بدائل للشخصيات البشرية، بل كانت تجسيداً لصورهم الداخلية، ومخاوفهم الخفية، ورغباتهم المكبوتة. عطيل، صانع الدمى الماهر، يمنح هذه الدمى الحياة، لكنه في الوقت نفسه يكتشف أن هذه الدمى هي التي تصنعه، وتشكل هويته. الدمى تعكس شكوكه وغيرة، وتضخمها، حتى تبتلعه في النهاية.
المنديل الذي أهداه عطيل لديدمونة تحول إلى رمز قوي للعلاقة بينهما، وإلى دليل على الحب والثقة. فقدان المنديل لم يكن مجرد خسارة لمادة، بل كان بمثابة فقدان لفرصة النجاة الأخيرة لهذه العلاقة. الدمى تتلاعب بالمنديل، وتخفيه، وتستخدمه لإثارة الشكوك، مما يؤدي إلى تدمير الحب والثقة بين عطيل وديدمونة. هذا الاستخدام الذكي للرموز عزز من عمق العرض، وجعله أكثر تأثيراً في نفوس المشاهدين.
حوار مكثف ونهاية صارخة: صياغة جديدة لمأساة شكسبير
اعتمد المؤلف سالم التميمي على الحوار المكثف والبلاغة في إعادة صياغة قصة “عطيل”. الحوار لم يكن مجرد تبادل للكلمات، بل كان صراعاً نفسياً عميقاً، يكشف عن دواخل الشخصيات ومخاوفهم. التميمي نجح في تقديم حكاية إنسانية مأساوية، حيث يقتل الزوج زوجته ليس بدافع الغيرة المجردة، بل لأنه يقتل صورته الخاصة، وكل أشكال الخوف والضعف التي تسكنه.
النهاية كانت صارخة ومؤثرة، ولكنها في الوقت نفسه كانت خالية من الضجيج والمبالغة. الممثلان استخدموا لغة الجسد للتعبير عن المعاناة الروحية التي تعيشها الشخصيتان، مما أضفى على المشهد طابعاً واقعياً ومؤلماً. الخنجر الذي يطعن ديدمونة لم يكن مجرد أداة للقتل، بل كان رمزاً للشك الذي يمزق القلب، ويدمر الروح. المسرحية تؤكد أن الصمت ليس هو ما يدمر العلاقات، بل الهمس المتكرر، والشبهات التي تتسلل إلى القلب ببطء.
آراء الفنانين: رؤى حول العمل والإبداع
عبّر عبدالله صنقور عن سعادته بتقديم هذا العمل، وأكد أنه حاول من خلاله إبراز تأثير تدخل الآخرين في العلاقات الإنسانية. كما شكر “دبي للثقافة” على دعمها للشباب، وتوفير المنصات اللازمة لعرض إبداعاتهم. سارة المازمي، التي لعبت دور ديدمونة، أشادت بالكيمياء التي جمعت بين فريق العمل، وأكدت أن هذا الدور منحها مساحة لإثبات نفسها. أما سالم التميمي، فاعتبر أن هذا المهرجان يمثل بداية حقيقية له ككاتب للشباب، وأشار إلى أن إعادة صياغة نص لشكسبير كانت تحدياً كبيراً، ولكنه تعمد تقديم رؤية مختلفة تعتمد على لغة الدمى والرموز.
في الختام، يمكن القول أن عرض “عطيل صانع الدمى” كان تجربة مسرحية فريدة من نوعها، جمعت بين الكلاسيكية والمعاصرة، وبين الإنسان والدمية. العرض نجح في إثارة تساؤلات مهمة حول طبيعة العلاقات الإنسانية، وتأثير الشك والغيرة وكلام الناس عليها. هذا العمل يمثل إضافة قيمة لمهرجان دبي لمسرح الشباب، ويؤكد على أهمية دعم الإبداع الشبابي وتشجيع التجارب المسرحية الجريئة والمبتكرة.


